إعلام السلطة وفتح: من المتاجرة بالشهداء إلى التنصّل منهم بعد 7 أكتوبر

قبل السابع من أكتوبر 2023، لم يكن يمر خبر عن عملية فدائية في الضفة الغربية دون أن تسارع وسائل إعلام السلطة الفلسطينية، ومعها إعلام حركة فتح، إلى التغني باسم منفذها، خصوصًا إذا كان من أبناء الأجهزة الأمنية.
كانت صورة “الشرطي المقاوم” أو “عنصر الأمن المقاوم” إحدى الأدوات الدعائية للسلطة، التي حرصت على استثمار دماء هؤلاء الشهداء للتأكيد على أن “فتح” وأجهزتها الأمنية لا تزال في صلب المشهد الوطني المقاوم، حتى في ظل التنسيق الأمني مع الاحتلال.
لكن مشهد ما بعد السابع من أكتوبر 2023 غيّر كل شيء. فقد تحوّل الخطاب الإعلامي للسلطة وحركة فتح إلى خطاب خجول، إن لم يكن متنصلًا بالكامل من هؤلاء الشهداء.
وباتت بيانات النعي غائبة أو مقتضبة، وتُصاغ بعبارات فضفاضة تشير إلى منفذي العمليات بأنهم “مواطنون عاديون”، بل أحيانًا تُطلق تلميحات تشكك في دوافع عملياتهم أو حتى في انتمائهم التنظيمي.
وبحسب مراقبين فإن هذا الانقلاب في الخطاب يكشف ارتباكًا سياسيًا عميقًا، ويعري التناقض الفاضح بين خطاب السلطة المعلن وممارساتها الأمنية على الأرض.
عملية “غوش عتصيون” تكشف هشاشة الخطاب الرسمي
عملية “غوش عتصيون”، التي نفذها الشهيدان محمود عابد ومالك سالم، وهما من جهاز الشرطة الفلسطينية، ليست إلا مثالًا صارخًا على هذا التناقض.
الشهيدان استدرجا حارس أمن إسرائيلي في مجمع “رامي ليفي” واستوليا على سلاحه، ليشتبكا معه وينتقما لدماء أبناء شعبهما، وهو ما أدى إلى مقتل الحارس الذي تبيّن أنه جندي احتياط في الجيش الإسرائيلي.
وبدلًا من أن تسارع السلطة الفلسطينية إلى تبني الشهيدين أو على الأقل نعيهما ببيان رسمي، غابت البيانات الرسمية تمامًا. بل كشفت مصادر أمنية أن محمود عباس أمر بفتح تحقيق لمعرفة كيف “فلت” العنصران من عين الرقابة الأمنية.
هكذا تحوّل من يفترض أن يكونوا “شهداء أبطال” إلى “حالة أمنية” تبحث فيها أجهزة الأمن عن الثغرات والولاءات، وكأن جريمتهما كانت حمل السلاح ضد الاحتلال، لا العكس.
ليس غوش عتصيون وحدها… أمثلة أخرى
عملية “غوش عتصيون” ليست الأولى التي ينفذها عناصر من أجهزة السلطة، وتكشف بعدها السلطة عن وجهها الحقيقي.
سبق أن نفذ أمجد فايز أبو عصب، أحد أفراد جهاز الأمن الوطني، عملية إطلاق نار عند حاجز حوارة جنوب نابلس، أدت إلى إصابة جندي إسرائيلي.
يومها حاولت بعض الأصوات المحسوبة على السلطة تصوير العملية على أنها “عمل فردي لا خلفية تنظيمية له”، فيما امتنعت الجهات الرسمية عن إصدار أي بيان نعي أو تبنٍّ.
وفي سبتمبر 2021، نفذ ضياء حمارشة، وهو ضابط في جهاز الأمن الوقائي، عملية إطلاق نار في مستوطنة بني براك أدت إلى مقتل خمسة إسرائيليين.
ورغم أن الرجل ينتمي تنظيمياً لحركة فتح، فضّلت السلطة إبقاء الصمت ولم تصدر بيانات رسمية تذكره بالاسم أو تشيد بعمله، سوى إشارات خجولة من بعض وسائل إعلام محلية. ذلك الصمت بدا آنذاك محاولة لتجنّب الإحراج أمام إسرائيل وأجهزة المخابرات الغربية.
التنسيق الأمني… خط أحمر لا يجوز المساس به
تكمن أزمة السلطة وحركة فتح في أن عمليات من هذا النوع تمثل تمرّدًا مباشرًا على عقيدة التنسيق الأمني. فالسلطة ترى في التنسيق مع الاحتلال “مصلحة وطنية”، باعتباره ضرورة لبقائها في الحكم، فيما يرى الشارع الفلسطيني هذا التنسيق خيانة صريحة للدم الفلسطيني.
من هنا، تُعتبر أي عملية ينفذها عنصر من الأجهزة الأمنية “فضيحة سياسية” بالنسبة للسلطة، لأنها تُظهر أن أبناء تلك الأجهزة أنفسهم لم يعودوا مقتنعين بخطاب قياداتهم، ولا يثقون بجدوى التنسيق الأمني.
أكثر من ذلك، تثير مشاركة عناصر الأجهزة الأمنية في العمليات العسكرية إرباكًا حقيقيًا لإسرائيل نفسها. فقد أُنشئت تلك الأجهزة أصلًا لتكون أداة إسرائيلية غير مباشرة لضبط الشارع الفلسطيني، وللحد من العمليات المسلحة.
وحين يتحول أفراد هذه الأجهزة إلى مقاومين، تصبح دولة الاحتلال الإسرائيلي أمام سؤال خطير: من يضمن ولاء هذه الأجهزة في أي تصعيد قادم؟.
من التمجيد إلى التشكيك
قبل 7 أكتوبر، كان إعلام فتح والسلطة يتفنن في صياغة قصص البطولة حول الشهداء من الأجهزة الأمنية. كانت تغطيات التلفزيون الفلسطيني والوكالة الرسمية (وفا) تمتلئ بصور هؤلاء “الأبطال” وتفاصيل حياتهم العسكرية والقتالية، حتى لو كان دورهم صغيرًا.
كان الهدف واضحًا: إثبات أن “فتح” لا تزال في قلب المقاومة، رغم التنسيق الأمني.
أما بعد 7 أكتوبر، فبات الخطاب مغايرًا تمامًا. إذا اضطرت السلطة إلى ذكر اسم شهيد من الأجهزة الأمنية، تُحاول وصفه بأنه “تصرف فردي” أو “حادث معزول”.
وفي أحيان كثيرة، كما في حالة غوش عتصيون، تتسرب أخبار عن تحقيقات داخلية لتشويه صورة الشهيد أو على الأقل زرع الشك في ولائه الوطني أو العقائدي. هذه الازدواجية تكشف عمق المأزق الذي يعيشه المشروع السياسي للسلطة، والذي بات مكشوفًا أمام الشارع الفلسطيني.
الغضب الشعبي يتصاعد
في الشارع الفلسطيني، تزداد النقمة على خطاب السلطة. إذ يرى كثيرون أن السلطة التي تتباهى بـ”دم الشهداء” حين يناسبها، هي ذاتها التي تتبرأ منهم حين يصبح دمهم عبئًا سياسيًا يحرجها أمام إسرائيل أو الولايات المتحدة.
ويعتبر مراقبون أن هذا السلوك ينزع آخر غطاء أخلاقي أو وطني عن السلطة، ويزيد من حالة النفور الشعبي منها، خصوصًا في الضفة الغربية، حيث يتزايد الاستعداد الشعبي لمواجهة الاحتلال رغم التنسيق الأمني.
ما بعد السابع من أكتوبر وضع الجميع أمام امتحان الحقيقة: هل السلطة الفلسطينية وحركة فتح مع الشعب حقًا، أم أن حساباتهما باتت مرتبطة ببقائهما السياسي وبالعلاقات الأمنية مع الاحتلال؟ الإجابة تتكشف يومًا بعد يوم… في بيانات غائبة وصمت مريب، وفي دماء مقاومين باتوا فجأة “مواطنين عاديين” لا يليق حتى نعيهم.