تحليلات واراء

عباس يستميت في الدفاع عن أوسلو.. أكاذيب تتهاوى أمام شهادة التاريخ

في مقابلته الأخيرة مع قناة العربية، عاد رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ليعيد إنتاج خطابٍ مأزوم يبرر اتفاق أوسلو، مدافعًا عنه حتى اللحظة، على الرغم من سقوط كل أوهامه تحت نيران الحرب الإسرائيلية على غزة وعمليات الضم الزاحف في الضفة الغربية.

وما أثار الاستهجان والاستغراب أن عباس نفى بشكل قاطع أن يكون الرئيس الراحل ياسر عرفات قد اعتبر اتفاق أوسلو “فخًا”، مستندًا إلى حجة واهية مفادها أن عرفات عاد إلى فلسطين بموجب هذا الاتفاق، ولو كان يراه فخًا لما عاد.

وقد قوبلت هذه التصريحات بانتقادات واسعة من أوساط فلسطينية سياسية وشعبية، إذ اعتبروها تزييفًا صريحًا للتاريخ ومحاولة يائسة لإعادة تلميع أوسلو في وقت تحوّل فيه الاتفاق إلى عبء ثقيل على القضية الفلسطينية.

اتفاق أوسلو ويكيبيديا

حين وقّع عرفات اتفاق أوسلو عام 1993، كان الدافع الأساسي هو إعادة الفلسطينيين إلى أرضهم، وبناء سلطة وطنية مؤقتة تمهّد لدولة مستقلة. صحيح أن الاتفاق في مرحلته الأولى سمح بعودة آلاف المنفيين، وعلى رأسهم قيادة منظمة التحرير، لكن مع مرور السنوات تحوّل إلى قيد سياسي خانق.

فقد تخلت دولة الاحتلال مبكرًا عن التزاماتها الجوهرية: لم تنسحب من الأراضي المحتلة كما نصت المرحلة الانتقالية، بل توسعت في الاستيطان، وحولت مناطق السلطة إلى جزر محاصرة.

ومع اندلاع الانتفاضة الثانية، اصطدم عرفات مباشرة بالنتائج المدمرة للاتفاق، ليعلن في جلسات خاصة وأحاديث مسجلة أن “أوسلو كان فخًا” استُخدم لإضعاف المقاومة وللسيطرة على الشعب الفلسطيني بأدوات فلسطينية.

ورغم هذا الواقع، لا يزال عباس متمسكًا بخطاب الدفاع عن الاتفاق، باعتباره “الخيار الاستراتيجي” الذي لا بديل عنه.

وفي مقابلته الأخيرة، أصر على نفي رواية الفخ، محاولًا أن يظهر عرفات في صورة الزعيم الراضي عن أوسلو حتى النهاية.

لكن هذه الرواية تتهاوى أمام شهادات قادة وسياسيين فلسطينيين كانوا شهودًا على تحولات موقف عرفات.

من هؤلاء المحلل السياسي هاني المصري، الذي أكد أن عرفات بالفعل عاد في البداية مؤمنًا بالاتفاق، لكنه لاحقًا وصفه بالفخ بعد أن تبين له حجم الخديعة الإسرائيلية.

وأبرز المصري أن محاولات عرفات للتخلص من قيود الاتفاق كانت أحد أسباب إصرار إسرائيل على التخلص منه باغتياله عام 2004.

لماذا يتمسك عباس بأوسلو؟

يتساءل مراقبون: ما الذي يدفع عباس إلى هذا الإصرار على تبرئة أوسلو، حتى على حساب تشويه موقف عرفات نفسه؟

الإجابة تكمن في أن بقاء السلطة الفلسطينية اليوم مرتبط وجوديًا بهذا الاتفاق.

فالسلطة التي يرأسها عباس تأسست بموجبه، وهي عمليًا تعيش على المساعدات والاعتراف الدولي الذي جاء في إطار “عملية السلام”، وأي تشكيك بجوهر الاتفاق يعني نسف شرعية السلطة التي يستند إليها عباس وفريقه.

لكن في الوقت نفسه، يدرك الفلسطينيون أن استمرار التمسك بأوسلو لم يعد يعني سوى تثبيت الأمر الواقع الإسرائيلي: الاحتلال يتحكم بالأرض والموارد، والسلطة تحافظ على التنسيق الأمني، بينما تتلاشى أي إمكانية لدولة فلسطينية مستقلة.

وتأتي تصريحات عباس في لحظة حساسة: ففي غزة، يشن الاحتلال حرب إبادة مروعة حصدت عشرات آلاف الأرواح، بينما يُقدَّم أوسلو على أنه مشروع سلام!.

وفي الضفة الغربية، يجري الضم التدريجي للمناطق، وتوسيع الاستيطان، وتقسيم الأرض إلى كانتونات معزولة.

وسط هذا المشهد الكارثي، يبدو دفاع عباس عن أوسلو وكأنه تبرير لمخططات الاحتلال، لا مجرد تمسك بخيار سياسي. إذ يُنظر إلى موقفه باعتباره خيانة لمشاعر الفلسطينيين الذين يرون أن الاتفاق لم يجلب لهم سوى الحصار والانقسام والاستيطان.

وما أثار الاستياء الأكبر هو الكذب العلني الذي مارسه عباس بشأن موقف عرفات. فالروايات الموثقة من مقربين للزعيم الراحل تؤكد أنه استخدم تعبير “الفخ” أكثر من مرة. بل إن محاولاته لفتح قنوات تفاوض بديلة أو الانسحاب التدريجي من قيود أوسلو كانت سببًا رئيسيًا لعزله سياسيًا ثم اغتياله.

إنكار عباس لهذه الحقيقة يفتح بابًا واسعًا للتساؤل حول مصداقيته: هل يسعى إلى إعادة كتابة التاريخ ليناسب سرديته الشخصية؟ أم أنه يخشى الاعتراف بأن أوسلو انتهى إلى الفشل الكامل، فيفقد بذلك آخر ما يستند إليه من شرعية؟

كما تكشف هذه الواقعة عمق الأزمة القيادية التي تعيشها الساحة الفلسطينية. فبينما يواجه الشعب حربًا مفتوحة على وجوده، يتمسك رئيس السلطة بخطاب قديم تجاوزه الواقع منذ عقدين. هذا الانفصال بين القيادة والشعب يعمّق الهوة، ويضعف أي إمكانية لبناء مشروع وطني جامع.

كما أن دفاع عباس المستميت عن أوسلو، رغم دماء غزة ودموع الضفة، يُظهر حجم الارتهان السياسي للخيارات التي صاغتها واشنطن وتل أبيب، لا الإرادة الشعبية الفلسطينية.

وبينما يصر عباس على التمسك بإعادة إحياء جثة أوسلو، يرى الفلسطينيون أن الخطوة الحقيقية تكمن في التحرر من إرث الاتفاق، وبناء مشروع وطني جديد يواجه الاحتلال لا أن يتعايش معه. أما أكاذيب السلطة فستبقى عاجزة عن طمس الحقيقة: أن أوسلو كان وما زال فخًا، دفع الفلسطينيون ثمنه دمًا وتهجيرًا وضياعًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى