معالجات اخبارية

أزمة التجنيد تتفاقم في إسرائيل: ملاحقة الحريديم وتمرّد في صفوف الاحتياط

تشهد دولة الاحتلال الإسرائيلي تصعيداً غير مسبوق في ملف التجنيد، مع إعلان الجيش الإسرائيلي بدء ملاحقة المتدينين اليهود (الحريديم) الذين تجاهلوا أوامر الاستدعاء للخدمة العسكرية.

وللمرة الأولى منذ سنوات، تستعد الشرطة العسكرية لاعتقال عشرات من المتخلفين عن الالتحاق بمكاتب التجنيد، في خطوة تحمل أبعاداً سياسية واجتماعية خطيرة.

وفي تصريح حادّ اللهجة، حذّر مسؤول بارز في التيار الديني من تداعيات هذه الخطوة قائلاً: “عشرات سيُعتقلون، وأيام الحكومة ستكون معدودة”. أما مصدر رفيع في حزب “يهدوت هتوراه” فلم يتردد في اتهام المؤسسة العسكرية مباشرة: “رئيس الأركان قرر إسقاط الحكومة”.

والتحرك العسكري ضد الحريديم يأتي بعد فشل كل محاولات إقناعهم بالالتحاق بالخدمة، حيث أرسلت وزارة الدفاع منذ يوليو/تموز الماضي نحو 19 ألف أمر تجنيد لرجال من التيار الأرثوذكسي المتشدد، التحق أقل من 300 منهم بالجيش.

هذه الأزمة تعيد فتح جرح الانقسام العميق في المجتمع الإسرائيلي بين “دافعي الثمن” من الطبقة العلمانية واليهود القوميين، وبين الحريديم الذين يتمسكون بإعفائهم التقليدي من الخدمة العسكرية، رغم مطالبتهم المستمرة بالدعم الحكومي.

جيش بلا جنود

الأزمة لا تقف عند حدود الحريديم. ففي وحدات الاحتياط، التي تشكل نحو 70% من قوام الجيش الإسرائيلي، يتنامى “الرفض الصامت” للاستدعاء. ومع دخول الحرب في غزة شهرها التاسع عشر، باتت معدلات الحضور تتراجع بشكل حاد.

في بعض الوحدات، لم يتجاوز الحضور 50% من عناصر الاحتياط، بل أن بعض السرايا تم حلها بالكامل بسبب النقص العددي.

ضابط احتياط يُدعى “نير” كشف أنه وزملاءه أدوا أكثر من 200 يوم خدمة منذ بداية الحرب، ما أدى لانهيار حياتهم الاجتماعية والمهنية.

“الزيجات تفككت، والوظائف فُقدت، ولم يبقَ لدينا أي دافع سوى روح الزمالة”، قال نير بمرارة.

أما الطيارون وعناصر الاستخبارات فقد عبروا عن احتجاجهم علناً. نحو ألف طيار حالي وسابق وقعوا على عريضة تطالب بإطلاق سراح الرهائن “حتى لو كان الثمن إنهاء الحرب”.

كما وقع مئات من جنود وحدة 8200 النخبوية على بيانات مشابهة. ورغم أن هذه المبادرات لا تدعو صراحة لرفض الأوامر، إلا أن أثرها الفعلي كان تقويض الالتزام بالتجنيد.

أزمة قيادة وخلافات استراتيجية

رغم محاولة القيادة العسكرية التقليل من شأن الأزمة، إلا أن التقارير المسرّبة من اجتماعات مغلقة تكشف عن صورة مغايرة.

رئيس الأركان الإسرائيلي أبلغ الوزراء بأن الجيش يعاني من نقص خطير في القوى البشرية، ما يُهدد بإفشال الأهداف المعلنة للعملية العسكرية في غزة.

فيما صحيفة “يديعوت أحرونوت” نقلت عن أحد الضباط قوله: “تم حل سرايا كاملة”، بينما وصفت إحدى المجندات الوضع بأنه “حالة يأس”.

والجيش يحاول معالجة الأزمة عبر إجراءات إسعافية، منها نظام “أسبوع بأسبوع” الذي يسمح للجنود بالتناوب بين الخدمة والمنزل، رغم تكلفته الباهظة.

كما لجأت وحدات التجنيد إلى نشر إعلانات عبر الإنترنت بحثاً عن متطوعين لخوض معارك غزة، في مشهد يعكس حجم الإرباك داخل المؤسسة العسكرية.

الأسرى.. ورقة سقطت من الأولويات

في خلفية هذه الأزمة، يقف ملف الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في غزة كعنوان بارز لفقدان الثقة بالقيادة.

فبينما يتضاءل الأمل بإطلاق سراحهم عبر الضغط العسكري، تظهر وثائق حكومية تُبيّن أن “تحرير الأسرى” جاء في المرتبة السادسة ضمن أهداف العملية العسكرية، بعد السيطرة على غزة و”تهجير السكان”.

هذا الترتيب أثار غضباً واسعاً في أوساط الجمهور الإسرائيلي، حيث أظهر استطلاع رأي حديث أن ثلثي الإسرائيليين يعتبرون الأسرى أولوية قومية.

لكن الحكومة اليمينية بقيادة بنيامين نتنياهو تبدو أسيرة لتحالفاتها مع الأحزاب القومية والدينية المتطرفة، التي تدفع نحو استمرار الحرب وترفض أي انسحاب من غزة.

أزمة الشرعية: من الجيش إلى الشارع

مع تصاعد التململ الشعبي، يرى مراقبون أن أزمة التجنيد قد تتحول إلى أزمة شرعية تهدد بقاء حكومة نتنياهو.

فبينما يدفع جنود الاحتياط ثمناً باهظاً في أرواحهم ووظائفهم، يتمسك الحريديم بحقهم في الإعفاء، في مشهد يزيد من حدة الاستقطاب الاجتماعي.

أوري أراد، ضابط سابق وأحد الموقعين على عريضة الطيارين، قال إن دولة الاحتلال تعاني من “تآكل أخلاقي عميق”، مشيراً إلى أن القيادة السياسية تخلت عن قيم الدولة لصالح بقائها في الحكم. “في حرب يوم الغفران كنا نؤمن أن الدولة ستفعل المستحيل لاستعادتنا، أما اليوم فالدولة تتخلى عن رهائنها”، أضاف أراد.

بين ضغط الشارع وخيارات نتنياهو

رغم خطورة الموقف، يُراهن نتنياهو على استمرار تحالفه مع الحريديم لتأمين بقائه السياسي.

وفي مواجهة مطالب التجنيد الإلزامي للجميع، هددت الأحزاب الدينية بمقاطعة الكنيست ما لم يُقر قانون يعفي طلاب المدارس الدينية.

في المقابل، يتصاعد الغضب في صفوف الجمهور الإسرائيلي، حيث يعتقد 53% من المواطنين أن الحرب باتت أداة بيد نتنياهو للهروب من أزماته القضائية والسياسية.

ورغم محاولات رئيس الوزراء الترويج لانتصارات سياسية خارجية، فإن إخفاقه في تحقيق “نصر حاسم” في غزة أو ضمان إطلاق سراح الرهائن يضعف موقفه تدريجياً.

أزمة بنيوية أم لحظة انفجار؟

في جوهرها، تعكس أزمة التجنيد في دولة الاحتلال مأزقاً بنيوياً يتجاوز الظرف الحربي الراهن. فهي تعبّر عن فشل صيغة “الجيش الشعبي” في ظل مجتمع منقسم بين من يرى في الخدمة العسكرية واجباً مقدساً، ومن يعتبرها عبئاً لا يعنيه.

اليوم، تواجه دولة الاحتلال احتمال الدخول في مواجهة مفتوحة ليس مع المقاومة الفلسطينية فحسب، بل مع جزء من مجتمعها الذي يرفض الاستمرار في دفع ثمن سياسات يرونها عبثية.

ومع بدء ملاحقة الحريديم قضائياً، تتجه الأزمة إلى التصعيد، وسط تساؤلات عميقة حول قدرة الجيش على الاستمرار، وحول مستقبل حكومة نتنياهو.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى