فتح بين الضفة وغزة ولبنان: من مشروع وطني إلى أداة بيد الاحتلال

لم يعد الخلاف حول حركة فتح يقتصر على رؤى سياسية متباينة أو اختلاف في تكتيكات العمل الوطني، فالممارسات الميدانية للحركة خلال السنوات الأخيرة، سواء في الضفة الغربية وقطاع غزة ولبنان، تكشف عن تحول جذري في دورها من مشروع وطني إلى أداة بيد الاحتلال.
إذ أن فتح تحولت بشكل لا يقبل الشكوك أو التأويل، من حركة ادعت قيادة مشروع التحرر الوطني الفلسطيني، إلى أداة وظيفية تعمل ضمن حدود يضعها الاحتلال الإسرائيلي وتخدم أجنداته الأمنية والسياسية.
في الضفة الغربية: وكيل أمني للاحتلال
يُجمع المراقبون على أن دور فتح في الضفة الغربية بات مرادفًا لمصطلح “التنسيق الأمني”. فالأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، التي تهيمن عليها كوادر فتح، تمارس بشكل ممنهج قمع أي شكل من أشكال المقاومة المسلحة أو الشعبية.
الاعتقالات اليومية، ملاحقة الخلايا الناشئة، إفشال عمليات كان يمكن أن تشتت الاحتلال أو تربكه، كل ذلك أصبح من صميم مهام الأجهزة التي يُفترض أنها أنشئت لحماية المواطن الفلسطيني.
وقد اعترف مسؤولون إسرائيليون مرارًا بأن التنسيق الأمني مع فتح هو صمام الأمان الأهم لاستقرار الاحتلال في الضفة الغربية. بكلمات أوضح: بينما يتحدث الاحتلال عن “التهديد الإيراني” و”حماس في غزة”، فإنه يشعر بطمأنينة نسبية في الضفة الغربية بفضل شريك أمني فلسطيني يمنع اشتعال الجبهة.
هذا الدور لا يقتصر على الاعتقال والملاحقة فقط، بل يتعداه إلى تفكيك البنية الاجتماعية الحاضنة للمقاومة، عبر الضغط على العائلات، تهديد الطلاب والنشطاء، وحرمان المقاومين السابقين من فرص العمل والدعم الاجتماعي، ليبقى خيار المقاومة مكلفًا ومعزولًا.
في غزة: دعم العصابات وتعطيل المقاومة
في خضم حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة على غزة، لم تكتف فتح بالتخلي عن أي دور وطني مسئول لوقف الحرب وإغاثة المواطنين، بل إنها لجأت إلى سياسات تخريبية مكشوفة.
فقد أثبتت تقارير أمنية وإعلامية متعددة دعم بعض كوادر فتح لتشكيل مجموعات مسلحة خارجة عن الصف الوطني، أقرب في سلوكها إلى “مليشيات لحد” في جنوب لبنان زمن الاحتلال الإسرائيلي.
وتقوم هذه العصابات، التي تُسلّح وتُحرّك غالبًا من خارج القطاع، بعمليات تهدف إلى خلخلة الجبهة الداخلية وضرب الاستقرار الأمني، وليس مواجهة الاحتلال.
الأمر لم يتوقف هنا؛ فقد مارست فتح ضغوطًا متواصلة لتعطيل لجنة الإسناد الشعبي، وهي الهيئة التي أُنشئت لتنسيق العمل الإغاثي والإنساني والدعم اللوجستي للمقاومة خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة.
وفي أكثر من مناسبة، خرج مسؤولون في الحركة أخرهم حسين الشيخ بتصريحات علنية يطالبون فيها بتسليم سلاح المقاومة، في انسجام تام مع خطاب الاحتلال الذي يرى في غزة “تهديدًا يجب نزعه”.
بهذا السلوك، تبدو فتح في غزة وقد تخلت تمامًا عن أي دور وطني جامع، لتقف في موقع أقرب إلى الخصومة مع المقاومة بدل أن تكون جزءًا من المعركة ضد الاحتلال.
في لبنان: محاولات لإنهاء المقاومة
في الساحة اللبنانية، حيث يحضر اللاجئون الفلسطينيون في المخيمات بقوة، لم يكن دور فتح أفضل حالًا. خلال السنوات الأخيرة، عملت كوادر الحركة في بعض المخيمات على إعادة إنتاج خطاب قديم يدعو إلى “إعادة ضبط الوضع الفلسطيني” عبر نزع سلاح الفصائل المقاومة وسحب الشرعية عنها.
والخطير في الأمر أن هذا الطرح يتقاطع بشكل واضح مع شروط غربية وإسرائيلية قديمة–جديدة، ترى في الوجود المسلح للفصائل الفلسطينية واللبنانية خطرًا يجب تصفيته.
فمن خلال التنسيق مع أطراف لبنانية ودولية، تُتهم فتح بمحاولة تمرير أجندة هدفها تصفية سلاح المقاومة الفلسطينية في المخيمات، بما يتناغم مع مسار إقليمي يسعى لإنهاء أي دور عسكري للفصائل خارج إطار “اتفاقات التسوية”.
حركة فتح ويكيبيديا
المحصلة في الضفة وغزة ولبنان تكشف أن حركة فتح لم تعد، في نظر قطاعات واسعة من الشارع الفلسطيني، مؤهلة لقيادة المشروع الوطني.
فالشرعية التاريخية التي استمدتها الحركة من قيادة الكفاح المسلح في الستينيات والسبعينيات تآكلت تدريجيًا، حتى انهارت تمامًا أمام جيل جديد يرى أن فتح تحولت إلى رديف للخيانة والعمالة.
لم يعد الحديث عن “انقسام داخلي” أو “صراع على الشرعية” كافيًا لتوصيف الواقع. فهناك فجوة عميقة بين خطاب الشارع الذي يطالب بالتحرر الكامل من الاحتلال وبين سلوك فتح الذي يكرّس التبعية للاحتلال.
وجدير بالتذكير أنه حين تأسست فتح في منتصف القرن الماضي، كانت تحمل شعار “الكفاح المسلح طريق تحرير فلسطين”. لكن اليوم، باتت الحركة تمثل النقيض تمامًا: التنسيق مع الاحتلال في الضفة، التخريب في غزة، ومحاولات نزع السلاح في لبنان.
هذا التحول لا يعكس فقط أزمة داخلية عابرة، بل يشير إلى تغير وظيفي في بنية الحركة نفسها. فتح لم تعد ترى في المقاومة مشروعًا وطنيًا جامعًا، بل عبئًا يجب التخلص منه لإرضاء الاحتلال وضمان بقاء امتيازاتها السياسية والاقتصادية.
وعليه تبدو حركة فتح وقد وصلت إلى القاع: لا رصيد شعبي حقيقي، ولا مشروع وطني جامع، ولا قدرة على استعادة زمام المبادرة. بل تحولت إلى أداة بيد الاحتلال، تمارس أدوارًا أمنية وإعلامية وسياسية تخدم استراتيجياته، وتُضعف الموقف الفلسطيني الموحد.
وبينما تصمد المقاومة في غزة، وتستمر بؤر التحدي في الضفة رغم القمع، وتتشبث الفصائل بسلاحها في لبنان، تبدو فتح خارج السياق الوطني تمامًا، ملتصقة أكثر من أي وقت مضى بساطير الاحتلال.