
في ظل الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة، لم تعد الهجمات تقتصر على القصف والتدمير، بل دخلت مرحلة جديدة من الحرب الاقتصادية المنظمة، حيث عمد الاحتلال الإسرائيلي إلى سحب السيولة النقدية (الشيكل) تدريجياً من القطاع، ما أحدث شحاً نقدياً خانقاً فاقم من الأزمة الإنسانية، في ظل غياب تام لأي تدخل فعّال من سلطة النقد الفلسطينية أو البنوك العاملة في الضفة الغربية.
تجفيف السيولة
ومنذ اندلاع الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023، أوقف الاحتلال إدخال البضائع إلى غزة عبر المعابر، ما أدى إلى منع تدفق العملة الإسرائيلية – الشيكل – إلى الأسواق، وهي العملة الرئيسية التي يتعامل بها الغزيون إلى جانب الدينار الأردني.
ومع توقف دخول الدولار، خاصة بعد امتناع المؤسسات الدولية عن دفع الرواتب به، أصبحت السيولة النقدية معدومة تقريباً.
ومع مرور الوقت، تفاقمت الأزمة أكثر، خصوصاً بعد أن أغلقت البنوك الفلسطينية أبوابها بالكامل، باستثناء مصرفين في النصيرات ودير البلح، يعتمدان فقط على الصرافات الآلية، بحد أقصى للسحب لا يتجاوز 1000 شيكل – أي أقل من 300 دولار – وغالباً ما كانت الطوابير الطويلة تمنع المواطنين من الحصول حتى على هذا المبلغ الزهيد.
عمولات 50% للصرافين
ومع توقف البنوك، لجأ المواطنون إلى مكاتب الصرافة لسحب أرصدتهم أو المساعدات القادمة من الخارج، لكنهم اصطدموا بـ”عمولات” فاقت كل التوقعات، وصلت في بعض الحالات إلى 50% من قيمة المبلغ المحول.
وفي ظل هذه الأوضاع، ظهر ما يُعرف بـ”مخلّصي المعاملات”، وهم أفراد أو مجموعات – بعضهم مسلحون – يقفون في الطوابير نيابة عن المواطنين، مقابل اقتطاع يصل إلى 30% من قيمة السحب.
“سلطة النقد” تنسحب
وفي فبراير/شباط 2024، اقتحم جيش الاحتلال فرع بنك فلسطين الرئيسي في حي الرمال بمدينة غزة، وقام بسرقة نحو 200 مليون شيكل (54 مليون دولار)، في واحدة من أكبر عمليات السطو المنظم على الأموال الفلسطينية.
وفي المقابل، سحبت إدارة البنك وباقي البنوك الفلسطينية أرصدتها النقدية من غزة، ونقلتها إلى الضفة الغربية، بذريعة الخوف من النهب أو الفلتان الأمني، ما تسبب بشلل شبه كامل في النظام المصرفي داخل القطاع، وترك المواطنين فريسة للانهيار المالي.
احتكار السوق
وبسبب ندرة السيولة، بدأ التجار في غزة يرفضون الأوراق النقدية القديمة أو “المهترئة” من فئة 10 و20 و50 شيكل، ما أجبر المواطنين على بيعها بسعر أقل من قيمتها الحقيقية، كما امتنعت بعض المحال عن قبول فئات 100 و200 شيكل القديمة.
وفي الوقت نفسه، رفض العديد من التجار التعامل بالتطبيقات البنكية أو المحافظ الإلكترونية، أو رفعوا أسعار المواد الغذائية عند الدفع إلكترونيًا بنسبة كبيرة، ما حرم الفئات الفقيرة من الوصول للمواد الأساسية، مثل الدقيق والسكر والخضروات.
إسرائيل تقايض الغذاء بالسيولة
وفي تحول لافت، سمح الاحتلال مؤخراً بإدخال شاحنات بضائع إلى غزة لكن بشروط قاسية على التجار دفع ثمن الشاحنات نقداً – وليس عبر البنوك – بمتوسط قيمته 6-7 ملايين شيكل لكل شاحنة، بحسب مصادر مطلعة.
والأخطر من ذلك، أن البضائع لم تكن أساسية كالغذاء أو الأدوية، بل شملت هواتف، سجائر، نسكافيه، ونوتيلا، في إشارة واضحة إلى أن الهدف لم يكن تلبية احتياجات المواطنين بل سحب السيولة المتبقية من أيديهم.
صمت سلطة النقد الفلسطينية
ورغم تفاقم الأزمة، لم تُصدر سلطة النقد الفلسطينية أي بيان رسمي أو توجيه واضح، ولم تتخذ أي خطوات ملموسة لاحتواء الانهيار المالي الحاصل في غزة.
وطالبت مؤسسات اقتصادية فلسطينية سلطة النقد بالتدخل العاجل، والتنسيق مع البنوك والمؤسسات الدولية لضخ السيولة، وفرض رقابة على مكاتب الصرافة والتجار المستغلين، لكن السلطة لم ترد على أي من هذه المطالب.
انهيار القوة الشرائية والتضخم الجنوني
وتشير الأرقام إلى انهيار غير مسبوق في القوة الشرائية:
-
حبة طماطم: 15 شيكل (4 دولارات)
-
حبة بطاطا: 20 شيكل (6 دولارات)
-
كيلو دقيق: 100 شيكل (30 دولاراً)
-
كيلو سكر: 200 شيكل (60 دولاراً)
ما يعني أن 100 دولار لا تكفي أسرة من أربعة أفراد ليومين فقط، في حين أن متوسط دخل الغزيين معدوم أو متقطع بفعل الحصار والبطالة.
وأكدت الغرفة التجارية في غزة أن بعض التجار تلقوا عروض تنسيق تجاري من جهات مشبوهة، تتضمن إدخال شاحنات مقابل دفع مبالغ باهظة نقداً، ما يسهم في ارتفاع الأسعار وإفقار المواطنين، ويحوّلهم إلى أدوات في يد الاحتلال ضمن سياسة “الضغط بالسيولة”.
ولم تعد الحرب على غزة تُخاض بالصواريخ والقصف فقط، بل بسياسات مالية مدمرة، تقطع عن الفلسطينيين شريان الحياة النقدي، وتحرمهم حتى من القدرة على شراء الخبز أو الدواء.
وبينما يستغل الاحتلال هذه الأدوات لـ”خنق” غزة اقتصادياً، تبقى سلطة النقد الفلسطينية في موقع المتفرج، ما يفتح الباب أمام تساؤلات خطيرة حول دورها وواجبها في حماية الشعب الفلسطيني لا سيما في أوقات الكارثة.