تحليلات واراء

دور باهت ومخزٍ: صمت المجتمع المدني في الضفة وسط حرب الإبادة في غزة

في الوقت الذي يتعرض فيه قطاع غزة لواحدة من أكثر الحروب دموية وتجويعًا في التاريخ الفلسطيني الحديث، ويعاني سكانه من المجاعة والحصار، تظهر الضفة الغربية وكأنها في كوكب موازٍ وسط دور باهت ومخزٍ.

فبينما تتساقط الأجساد الهزيلة في رفح، ويُدفن الأطفال في مختلف أنحاء قطاع غزة دون كفن أو كاميرا، تمضي الحياة في الضفة بإيقاعها الاعتيادي، تقام حفلات الزفاف، وتُقام الفعاليات الثقافية، ولا تكاد تُسمع هتافات الغضب إلا في بعض الجمعات الرمزية.

ويؤكد مراقبون أن هذا التناقض الصارخ بين الدم الذي ينزف في غزة، واللامبالاة العامة التي تسود الضفة، يفتح بابًا للمساءلة والمحاسبة عن الدور المتخاذل الذي تلعبه النقابات، الحراكات الشبابية، والمؤسسات المدنية في الضفة الغربية، والتي غابت إلى حدّ مقلق عن الساحة في لحظة يفترض أن تكون لحظة كفاح وطني مشترك.

نقابات مشلولة… باسم “الحياد المهني”

تُعد النقابات – سواء كانت صحفية، طبية، تعليمية أو عمالية – أحد الأعمدة الأساسية للمجتمع المدني الفلسطيني. لكنها، ومنذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية في أكتوبر 2023، بدت وكأنها في إجازة قسرية أو طوعية عن أي دور فعّال.

فيما يُقتل الصحفيون بغزة بالعشرات، ويُستهدف الأطباء والمستشفيات، وتُقصف الجامعات والمراكز البحثية، لم تُصدر العديد من النقابات في الضفة الغربية سوى بيانات باهتة، مكتوبة بلغة ركيكة، خالية من أي دعوة للحشد أو الموقف العملي.

ولا تكاد تجد أي تنظيم لإضرابات رمزية، أو وقفات احتجاج أمام مراكز دولية أو مقار السلطة، وكأن القتل يتم في بلدٍ آخر.

الذرائع تتراوح بين “الضغط الأمني”، و”عدم تسييس النقابات”، و”الخوف من المساءلة”، لكنها لا تصمد أمام حجم الفظائع المرتكبة. فإذا لم يكن هذا هو الوقت المناسب لتجاوز الرسميات ورفع الصوت، فمتى يكون إذًا؟

الحراكات الشبابية: أين ذهب الغضب؟

قبل سنوات، كانت الضفة الغربية تضجّ بالحراكات الشبابية، ضد الفساد، القمع، أو حتى ضد ممارسات الاحتلال. لكن اليوم، وسط حرب إبادة وتهجير جماعي، لم تشهد المدن الكبرى كرام الله ونابلس والخليل إلا فعاليات محدودة، معظمها موسمية أو بإذن مسبق.

هل أُرهق الشباب؟ هل خنقهم الانقسام السياسي؟ أم هل أُفرغ الفعل الجماهيري من معناه تحت تأثير الضغوط الأمنية والثقافة الاستهلاكية التي تسلّلت إلى الفضاء العام؟

قد تكون كل هذه العوامل صحيحة، لكن الصحيح أيضًا أن التخاذل الجماعي هذا يُشكّل فجوة أخلاقية، ويعكس أزمة في أولويات الوعي الجمعي.

ففي الوقت الذي تُحاصر فيه غزة وتُقصف بلا توقف، يتحوّل الشارع في رام الله إلى مساحة للتسوق، وتُنشر صور الحفلات والمناسبات وكأن لا شيء يحدث على بعد 70 كيلومترًا.

المجتمع المدني… أدوات تمويل لا أدوات مقاومة؟

لطالما تغنّى الفلسطينيون بأن المجتمع المدني في الضفة يتمتع بنشاط واسع ومؤسسات متنوعة. لكن الواقع المرير يكشف أن كثيرًا من تلك المؤسسات قد تحوّل إلى أدوات بيروقراطية، تُنتج أوراق مشاريع، وتقارير إنجاز، أكثر مما تُنتج أفعالًا شعبية أو تضامنًا ميدانيًا.

ما يُعزز هذه الفرضية أن معظم فعاليات التضامن مع غزة التي نُظّمت في الأشهر الماضية جاءت من جهات مستقلة، أفراد، أو عبر منصات اجتماعية، بينما غابت المؤسسات الكبرى ذات التمويل الضخم.

والمؤسف أن بعض المؤسسات الحقوقية الفلسطينية، التي اعتادت رصد الانتهاكات الإسرائيلية، لم تُخصص موارد حقيقية لرصد جرائم الحرب أو توثيق مجاعة غزة، واكتفت ببيانات إلكترونية لا تُقنع أحدًا.

حفلات وأعراس… وانفصام مجتمعي

في ذروة الحرب، وبينما كانت فرق الإنقاذ تبحث تحت الأنقاض عن ناجين في خان يونس، انتشرت عبر الإنترنت صور لحفلات زفاف فاخرة في الضفة الغربية، وأخرى لحفلات تخرج وأمسيات فنية لم تُراعِ رمزية الدم المسفوك في غزة.

قد لا يكون من العدل توجيه اللوم لكل فرد، أو منع الناس من الفرح، لكن حين يصبح الاحتفال علنيًا، غير آبه بمجازر تُرتكب يوميًا بحق فلسطينيين مثلهم، فهذه دلالة خطيرة على تفكك الرابطة الوطنية، وتحوّل القضية الفلسطينية من شعور جمعي إلى مجرد خبر في الشريط الإخباري.

السلطة غائبة… والفراغ يُستغل

يُحمّل كثير من النشطاء المسؤولية الكبرى للسلطة الفلسطينية، التي لم تلعب أي دور تحريضي أو تعبوي تجاه الحرب على غزة، بل اكتفت بخطابات بروتوكولية في المحافل الدولية، مع استمرار التنسيق الأمني، وغياب أية إجراءات ميدانية تواكب حجم الجريمة.

وفي ظل هذا الغياب الرسمي، فإن المجتمع المدني كان من المفترض أن يملأ الفراغ، لكنه هو الآخر بدا منزوع الفاعلية، مقيدًا بقوانين الجمعيات أو خائفًا من المحاسبة السياسية، أو مستنزفًا في أولويات الحياة اليومية، التي باتت تنفصل أكثر فأكثر عن الواقع في غزة.

غزة ليست بعيدة

الرسالة الأهم التي يجب أن تُقال بوضوح هي أن غزة ليست مجرد “منطقة أخرى”، وليست ملفًا إعلاميًا أو صورة ضبابية على الشاشات. ما يجري هناك هو امتداد لما جرى – وما قد يجري – في الضفة والقدس والنقب وكل فلسطين.

الدم الفلسطيني لا يتجزأ، والعدو واحد. وإن كان الاحتلال يسعى لفصل غزة عن باقي الوطن جغرافيًا، فإن التخاذل الأخلاقي من جانب المجتمع المدني في الضفة يُكمل المهمة على الصعيد الشعوري.

ويؤكد المراقبون أن صمت النقابات، جمود الحراكات الشبابية، وركود المؤسسات المدنية، ليست تفاصيل ثانوية، بل مؤشرات على أزمة هوية وطنية تعيشها الضفة الغربية.

ولعل أخطر ما في هذه الأزمة، أنها تجري في وقت يتعرض فيه الفلسطينيون في غزة لإبادة جماعية، تُرتكب على مرأى من العالم، بل وبمشاركة بعض أطرافه والرسالة اليوم “إن لم نتحرك الآن، وإن لم تُستنهض الضفة شعبًا ونخبًا، فإننا لا نخسر غزة فقط، بل نخسر أنفسنا”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى