“معبر رفح مفتوح من ناحيتنا”: سخرية لاذعة من سردية النظام المصري
وسط كارثة غزة الإنسانية

في الوقت الذي يعاني فيه أكثر من 2 مليون فلسطيني في قطاع غزة من تجويع متعمد وانهيار شامل للبنية التحتية جراء حرب إبادة مستمرة منذ أكتوبر 2023، تتوالى التصريحات من الإعلام المصري ومسؤولي النظام بأن “معبر رفح مفتوح من ناحيتنا”.
هذه السردية أثارت بشدة موجات سخرية عارمة على مواقع التواصل الاجتماعي، وسط تساؤلات جادة حول دور القاهرة في استمرار هذا الحصار الخانق، وما إذا كانت تتنازل فعليًا عن سيادتها على الشريان الجنوبي لغزة لصالح التنسيق الأمني مع إسرائيل.
سردية مكرّرة.. وواقع يُكذبها
العبارة “معبر رفح مفتوح من ناحيتنا” تحوّلت إلى ما يشبه النكتة السوداء بين الفلسطينيين والنشطاء العرب، إذ تُردَّد منذ شهور في الإعلام المصري الرسمي وشبه الرسمي، لتبرئة ذمة القاهرة من المجاعة والموت البطيء الذي يواجهه سكان غزة.
لكن الوقائع على الأرض تكشف أن المعبر مغلق فعليًا في أغلب الأوقات، أو لا يُسمح بمرور الشاحنات سوى بأعداد رمزية، فيما تتكدّس آلاف الشاحنات المحمّلة بالإمدادات الإنسانية والطبية والغذائية في العريش ورفح بلا إذن مرور.
صور طوابير الشاحنات المتوقفة لأيام وأسابيع، في حين يموت الأطفال في غزة بسبب الجوع أو العطش، أصبحت رمزًا للفشل الإنساني والسياسي، بل ولفضيحة تتجاوز حدود المعبر إلى اختبار سيادي يُخفق فيه النظام المصري لصالح “التفاهمات الأمنية مع الاحتلال الإسرائيلي”، بحسب ما يردده نشطاء وحقوقيون.
معبر سيادي؟ أم بوابة تحت الإملاء الإسرائيلي؟
من المفترض أن معبر رفح هو بوابة حدودية بين دولتين ذاتي سيادة – مصر وفلسطين – لكن الواقع السياسي منذ سنوات، وتحديدًا منذ سيطرة حركة “حماس” على القطاع، يجعل منه نقطة أمنية تتحكم بها القاهرة بالتنسيق مع الاحتلال الإسرائيلي، الذي يفرض موافقته غير المباشرة على كل شاحنة، وكل شخص، وكل حمولة تمر من خلاله.
فعليًا، لا يمكن لأي مساعدات إنسانية أن تدخل إلى غزة من معبر رفح دون موافقة أمنية مسبقة من الاحتلال الإسرائيلي، سواء عبر التنسيق مع جهاز الشاباك أو عبر قوائم الرفض التي تفرضها “كوغات” (وحدة التنسيق الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية)، وكل ذلك يجري وسط صمت مصري رسمي لا يعترف بوجود هذا القيد، ويصرّ إعلاميًا على أن مصر “لا تغلق المعبر”.
تقارير حقوقية تكشف التواطؤ
عدة منظمات إنسانية وحقوقية دولية، من بينها “هيومن رايتس ووتش” و”أطباء بلا حدود” و”أوكسفام”، أشارت إلى أن معبر رفح يُستخدم كأداة ضغط سياسية من جانب النظام المصري، وأنه لم يكن يومًا “مفتوحًا” بالمفهوم الإنساني، بل جرى إغلاقه أو التحكم فيه لأغراض سياسية تتعلق بعلاقة القاهرة مع فصال المقاومة، أو خضوعًا لضغوط إقليمية ودولية.
ففي ذروة الكارثة في فبراير ومارس 2024، منعت السلطات المصرية مرور أجهزة غسيل الكلى ومضخات الأوكسجين، وحتى سيارات الإسعاف، إلا بعد تأخير وصل أحيانًا لأسابيع، بحسب إفادات الهلال الأحمر الفلسطيني ومصادر أممية.
“معبر مفتوح” ومرضى يموتون
لا يُمكن للعبارة المتكررة أن تصمد أمام صور الأطفال الرضع الذين يموتون في حضّانات غزة بسبب انقطاع الكهرباء، أو الجرحى الذين يحتاجون عمليات عاجلة ولا يتمكنون من الخروج للعلاج.
ففي كل مرة يُقال فيها إن “المعبر مفتوح”، تُظهر الوقائع أن عشرات المرضى المدرجين على لوائح التنسيق يموتون قبل أن تصل أسماؤهم للموافقة النهائية. في حين تُمنع شاحنات محمّلة بالطحين والماء وأسطوانات الغاز من المرور، دون أي تفسير سوى “أوامر عليا”.
هذا التناقض الفجّ بين الرواية الرسمية والواقع الميداني هو ما أجج حملات السخرية والغضب على مواقع التواصل، حيث سادت وسوم مثل: #معبر_رفح_مقفول، #افتحوا_المعبر، #رفح_تحت_السيادة_الإسرائيلية، مصحوبة بتقارير مصورة توثق حجم المأساة التي يتواطأ فيها الجميع، بمن فيهم الجار الأقرب.
تواطؤ دبلوماسي وأمني
الموقف المصري، كما يرى مراقبون، ليس مجرد “حالة إدارية أو تخبط بيروقراطي”، بل يعكس خيارًا استراتيجيًا للنظام في القاهرة الذي يراهن على تثبيت علاقاته الاستراتيجية مع تل أبيب وواشنطن مقابل التراجع عن تبنّي أي موقف فلسطيني مستقل.
ويشير باحثون إلى أن مصر تتعامل مع القطاع كـ”صداع أمني” لا كقضية قومية، وأن الملف يُدار من قبل جهاز المخابرات العامة كأولوية أمنية، وليست إنسانية أو وطنية، ما يفسّر الضبابية المتعمدة في البيانات الرسمية، وغموض التنسيق مع جهات الإغاثة الدولية، والتضييق حتى على الوفود الطبية القادمة من العالم العربي.
اختبار للضمير القومي
معبر رفح ليس مجرد بوابة حدودية، بل اختبار أخلاقي وسيادي لمكانة مصر في وجدان الفلسطينيين والعرب.
وكل يوم يمر على استمرار إغلاق المعبر أو التحكم في تدفّق المساعدات عبره، يعمّق صورة التواطؤ، ويضعف الرواية القومية التي لطالما تبنّتها القاهرة بأنها “الراعية للتسوية الفلسطينية”.
اليوم، وبينما يموت سكان غزة جوعًا وقهرًا وقصفًا، لا يكفي أن تقول القاهرة إن المعبر “مفتوح من جهتنا” – لأن الواقع يُكذبها، ولأن الدم الذي يُراق، يُسائلها.
وعليه فقد تحوّلت سردية “معبر رفح مفتوح” إلى كذبة مفضوحة، لا تصمد أمام الحقائق ولا تُقنع أحدًا، فيما يعيش الفلسطينيون في غزة حصارًا مزدوجًا: من الاحتلال من جهة، ومن شقيقٍ صامت من جهة أخرى.
وسيبقى معبر رفح رمزًا حيًا، لا فقط للخذلان السياسي، بل للسقوط الإنساني الذي يشارك فيه الصمت كما يشارك فيه الإغلاق.