ثلاثة أشهر من الإذلال المالي: السلطة تترك عوائل الأسرى والشهداء لمصير مجهول

مرّت ثلاثة أشهر على قرار السلطة الفلسطينية وقف صرف رواتب آلاف الأسرى في سجون الاحتلال، وعوائل الشهداء، دون أي مؤشرات على التراجع عن القرار أو وجود أفق لحلّ يرفع المعاناة عن هذه الفئات المناضلة التي تحمّلت عبء المواجهة ودفع الثمن عن الشعب الفلسطيني، في حين يُترك أبناؤها لمصير مجهول، تحت عنوان “الإملاءات الإسرائيلية” و“الشروط الأمنية الدولية”.
ورغم تبريرات السلطة بأن القرار جاء تحت وطأة الضغوط الدولية والإسرائيلية، إلا أن الواقع السياسي والاقتصادي والمعيشي يكشف أن ما حدث هو تخلٍ متعمّد عن أبرز ركائز النضال الوطني الفلسطيني، وتحوّل السلطة من مظلة نضال – كما زعمت يومًا – إلى جهة تمارس العقاب الجماعي بحق من قاوموا الاحتلال وقدموا أبناءهم شهداء وأسرى.
خضوع… بلا مقابل
بدأت السلطة بقطع مخصصات الأسرى وعوائل الشهداء بشكل تدريجي تزامنًا مع ضغوط أمريكية وإسرائيلية مكثفة لوقف ما تسميه “تمويل الإرهاب” – وهي التسمية التي يطلقها الاحتلال على مستحقات مناضلين قضوا سنوات في سجون الاحتلال أو قُتلوا على أيدي قواته.
ومع ذلك، لم تقابل دولة الاحتلال هذا “التجاوب” الفلسطيني بأي تنازل.
بل على العكس، استمرت في اقتطاع الأموال الفلسطينية من عائدات الضرائب، ما يعني أن السلطة قطعت الرواتب التزامًا بالتعليمات، وفي ذات الوقت لم تحصل على فلسٍ واحد من مقابل ذلك.
وفق أرقام رسمية، اقتطعت الحكومة الإسرائيلية أكثر من 350 مليون شيكل خلال النصف الأول من عام 2025 من أموال المقاصة الفلسطينية، بدعوى أن السلطة لا تزال “تُموّل عائلات إرهابيين”.
ويُظهر هذا التناقض أن الهدف ليس المال بحد ذاته، بل تحطيم البنية المعنوية والرمزية للمقاومة الفلسطينية وتجريمها داخليًا وخارجيًا، حتى على أيدي مؤسسات فلسطينية.
تشريد جماعي وصمت رسمي
ما الذي يعنيه قطع رواتب الأسرى والشهداء؟
آلاف العائلات أصبحت بلا مصدر دخل، تتنقل بين أبواب المؤسسات الخيرية، أو في طوابير الإعانة، أو ببساطة… تذهب للشارع.
أبناء الأسرى والشهداء حُرموا من رسوم جامعاتهم ومدارسهم، ومن دعم مخصصاتهم الصحية والمعيشية.
نساء كثيرات أصبحن بلا معيل ولا حماية، خاصة في ظل غياب برامج الرعاية والتشغيل البديلة.
تفاقم مشاعر الغضب داخل المجتمع الفلسطيني من السلطة و”منظومتها الأخلاقية” التي تهمل من ضحّوا لأجل الوطن.
والأخطر: تتجنّب السلطة حتى اليوم إصدار أي بيان رسمي صريح يشرح موقفها أو يضع جدولًا زمنيًا لمعالجة الأزمة، وتكتفي بالتسريبات أو التعليقات الجانبية من مسؤوليها.
انفجار اجتماعي محتمل
في أكثر من مدينة بالضفة الغربية، خرجت احتجاجات متفرقة لعائلات الأسرى والمحررين، من رام الله إلى نابلس وجنين وطولكرم ضد قطع رواتب الأسرى وعوائل الشهداء.
وتحدث العديد من الأسرى المحررين عن عودة “الوصمة” الاجتماعية التي تحاول دولة الاحتلال إلصاقها بكل مناضل فلسطيني، والتي تعزّزها الآن السلطة نفسها حين تتعامل مع الأسير كعبء وليس كرمز وطني.
وفي غياب أي جهة فلسطينية رسمية تحتضن هذه الأصوات، فإن خيار التصعيد الشعبي ضد مؤسسات السلطة بات مطروحًا، وربما يبدأ بموجة إضرابات واعتصامات في الشوارع والمؤسسات الرسمية.
بين المقاصة والتنازل الأخلاقي
قضية المقاصة – أو الأموال التي تجمعها دولة الاحتلال نيابة عن الفلسطينيين – ليست جديدة. الاحتلال يحتجز هذه الأموال أو يقتطع منها ما يشاء متذرعًا بمصروفات “غير شرعية”، ومن بينها مخصصات الأسرى.
لكن الجديد هو سلوك السلطة ذاته: عوضًا عن الوقوف في وجه هذه السرقات المنظمة، اختارت أن تُنفذ أجندة الاحتلال بيد فلسطينية، وبلا مقابل سياسي أو مالي حقيقي.
وأخطر ما في هذه القضية، ليس فقط الأثر الاقتصادي، بل الرمزية السياسية والمعنوية. حين تقطع السلطة رواتب الأسرى والشهداء، فهي تُعيد صياغة مفهوم “المناضل”، وتُحوّله إلى خطر يجب معاقبته، لا رمزًا يجب تكريمه.
وهذا ليس قرارًا إداريًا، بل مشروع إعادة تعريف لمعنى “الوطنية” في السياق الفلسطيني، يُصاغ وفق المعايير الأمنية الإسرائيلية والغربية.
وبدل أن تكون السلطة الجدار الأخير للأسرى وعائلات الشهداء، باتت اليد التي تقطع عنهم الرواتب، وتتبرأ منهم أمام العالم. وهذا الانحدار الأخلاقي لا يُفكّ إلا بتراجع فوري عن القرار، واعتذار واضح، وتعويض العائلات فورًا. فالمقاومة ليست “موازنة”، والشهداء ليسوا “مصاريف”، والأسرى ليسوا عبئًا بل هم قلب المشروع الوطني الذي يتآكل حين تساوم عليه السلطة نفسها.