معالجات اخبارية

تجار السيولة النقدية.. من أكثر وجوه الحرب قذارة وإرهاقًا لأهالي غزة

في ظل حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة منذ قرابة 22 شهرا، لم تقتصر المأساة على دمار البيوت والمجازر اليومية ونقص الغذاء والدواء، بل برزت ظاهرة خطيرة باتت تشكّل عبئًا إضافيًا على كاهل السكان المنهكين، تُعرف شعبيًا بـ”تجار السيولة” أو “سماسرة الكاش”، الذين يحوّلون حاجة الناس إلى المال إلى سوق سوداء مستغلّة، بأساليب تصل إلى حد الابتزاز.

إذ في ظل الانهيار الكامل للمنظومة المصرفية وخروج غالبية البنوك عن الخدمة منذ الأسابيع الأولى للعدوان، أصبحت عملية الوصول إلى النقود الورقية (الكاش) مهمة شاقة، لا سيما مع توقف أجهزة الصراف الآلي عن العمل، وتوقف أغلب المؤسسات التجارية عن التعامل بوسائل الدفع الإلكتروني.

وقد تجاوزت أزمة الشحّ الحاد في السيولة النقدية حدود الاحتمال بحيث يضطر السكان، في ظل شلل شبه كامل في الخدمات المصرفية بما يشمل السحب والإيداع، إلى اللجوء للسوق السوداء للحصول على النقد، مقابل عمولات مرتفعة تستنزف ما تبقى من قدراتهم المعيشية

هذا الواقع فتح الباب أمام شبكة من المضاربين الماليين والسماسرة الذين بدأوا يقدّمون ما يُعرف بـ”صرف الرواتب أو التحويلات مقابل خصم فوري”، وهو ما يعني ببساطة: المواطن يتقاضى 100 دولار، لكن يحصل على 60 أو 70 منها فقط نقدًا، فيما يستولي السمسار على الباقي تحت ذريعة “رسوم خدمة” أو “تكاليف المخاطر”.

استغلال حاد للمعاناة

يقول المواطن عبد الرحمن سلمان، وهو رب أسرة نازحة من مخيم الشاطئ: “استلمت تحويلًا ماليًا من أحد الأقارب في الخارج عبر تطبيق مالي، وذهبت إلى أحد مكاتب السماسرة في دير البلح، لكنهم أعطوني 600 شيكل فقط بدلًا من 1000، بحجة أن الوضع خطير والكاش قليل، وعلي أن أقبل أو أترك المبلغ في الهواء”.

ويتابع: “هذا ليس صرفًا، بل سرقة مقنّنة في وضح النهار، وهم يعلمون أنك لن ترفض لأن أطفالك جائعون، ولديك حاجة ملحة للدواء أو الوقود أو الخبز”.

شبكات منظمّة ومحميّة

رغم الطابع الفردي الظاهري لتلك العمليات، إلا أن تقارير محلية تشير إلى أن العديد من شبكات الصرافة والسماسرة تعمل ضمن منظومة منظمة، وبتغطية غير رسمية من عناصر نافذة في بعض المناطق، مقابل حصة في الأرباح أو تغطية أمنية.

وقد رُصد خلال الأسابيع الأخيرة ازدياد في عدد المكاتب التي تقدم خدمة “صرف الحوالات مقابل الكاش الفوري”، وتنتشر بشكل خاص قرب مخيمات النزوح الكبرى وفي محيط المدارس والمستشفيات، حيث يتكدس السكان بشكل أكبر.

وتعتمد هذه الشبكات على أدوات متنوعة، منها استخدام سيارات متنقلة أو موزّعين يحملون أجهزة هواتف محمولة تتيح تحويل الأموال من تطبيق لآخر، مقابل خصم فوري قد يصل إلى 40 أو 50 في المئة من قيمة التحويل.

الوجه الأكثر قذارة للحرب

يصف باحثون اقتصاديون هذه الظاهرة بأنها أحد أكثر وجوه الحرب قذارة، إذ أن تجّار السيولة يستفيدون من انهيار البنية المالية وغياب الرقابة وضعف السلطة، ويحوّلون الحرب إلى فرصة للإثراء الفاحش على حساب فقراء يبحثون عن علبة حليب أو رغيف خبز.

وهؤلاء لا يقلّون خطورة عن تجّار الحروب في تاريخ النزاعات الكبرى، فهم يغذّون السوق السوداء، ويمنعون وصول النقد للطبقات الأشد حاجة، ويدفعون بالمزيد من الناس نحو اليأس أو الوقوع في براثن الديون.

تلاعب بالسوق وضغط على العائلات

من تداعيات هذه الظاهرة أيضًا، ما كشف عنه تجار تجزئة وأصحاب بقالات من أنّ الطلب النقدي المتزايد يدفعهم أيضًا للدخول في هذه الحلقة المفرغة، إذ يضطر بعضهم للجوء إلى تجّار السيولة لتأمين “كاش” لشراء البضائع، مما يجعلهم يدفعون هم أيضًا نسبة خصم، يتم تعويضها برفع أسعار السلع.

يقول أبو خالد، الذي يدير دكانًا صغيرًا في النصيرات: “لو اشتريت علبة زيت بـ20 شيكل، علي أن أبيعها بـ30 لأعوّض الخصم الذي دفعته لمن سلّمني المال نقدًا، وهذا يُغضب الزبائن، لكنه واقع مفروض علينا”.

دعوات للمحاسبة وتنظيم السوق

مع تزايد الاحتجاجات الشعبية على هذه الظاهرة، خرجت عدة مؤسسات حقوقية ومالية محلية بمطالب لتشكيل لجنة طوارئ اقتصادية تضبط عملية صرف المساعدات والتحويلات، وتوفر بدائل مؤقتة لنقل السيولة النقدية بإشراف من الجهات الرسمية أو الجمعيات الموثوقة، بعيدًا عن سماسرة الحرب.

كما دعا بعض النشطاء إلى نشر أسماء الشبكات التي تستغل المواطنين، ومقاطعتها شعبياً، خاصة في ظل تكرار الشكاوى من تورّط أفراد معروفين بانتماءات تنظيمية معينة، يستغلون نفوذهم لاحتكار السيولة.

وفي المحصلة، يقف الغزيون اليوم في مواجهة مع عدو خارجي يقتل ويجوع ويقصف، وعدو داخلي ينهش ما تبقّى من جيوبهم وكرامتهم.

وإذا كانت الحرب على غزة تُقاس بضحاياها من الشهداء والدمار، فإن هذا الوجه الآخر الخفي للحرب – الذي اسمه “تُجار السيولة” – يفتح جبهة لا تقلّ قساوة، لكنها بلا صواريخ، فقط خصم على دم الناس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى