رغم نهج سحب الذرائع… الضفة تُقتل ببطء صامت في ظل “سلطة بلا سلطة”

بينما تركزت الأضواء على احتفالية شرم الشيخ ووعود الإعمار في غزّة، تُسجل الضفة الغربية فصلًا مغايرا من المأساة حيث تُقتل ببطء صامت وتواجه حربا مفتوحة تتغذى على عنفٍ استيطاني ممنهج، وتواطؤ مؤسسي يجعل الجريمة مشهدا معتادا لا حدثًا طارئًا.
ويبرز مراقبون أن نهج سحب الذرائع الذي تتبعه السلطة بخفض الاحتكاك، وكبح التعبيرات الشعبية، والتضييق على فصائل المقاومة لم يوقف العدوان الإسرائيلي بل يؤمن ظهر المشروع الاستيطاني وتكريس الاحتلال.
ويقول حلمي الأسمر الكاتب والصحفي من الأردن إن ما يجري في الضفة الغربية يتجاوز هجماتٍ فردية إلى هندسة ديموغرافية تستهدف تحويل مساحات واسعة، خصوصًا في المنطقة “ج»، إلى فراغ فلسطيني عبر عمليات الهدم المكثفة ومنع تراخيص بناء، وقطع طرق، وتضييق موسمي على المزارعين، وتجريف ممنهج لاقتصاد الريف.
ويشير الأسمر إلى أن العدوان اليومي يوازيه تصعيد عسكري عبر اقتحامات وحرق منازل وبساتين، واعتداء على دور العبادة، في ظل حضور أمني إسرائيلي لا يمنع الجريمة بل يؤمّن محيطها وتأخر متعمد في التدخل، أو مرافقة فعلية للمستوطنين.
هكذا يتحول الإفلات من العقاب إلى سياسة دولة، ويُطبع الاغتصاب اليومي للأرض في وعي الضحية والعالم كوضع طبيعي.
“سلطة بلا سلطة”: فراغٌ تُملؤه الإدارة الاستيطانية
تبدو السلطة الفلسطينية وكأنها مفوّضة بإدارة السكان لا بحمايتهم. تنسّق أمنيًا، تضبط الشارع، تلجم المقاومة، لكنها لا تملك أدوات الردع ولا صلاحيات السيادة.
فقد أُفرغ “أوسلو» من أي مضمون سيادي، وبقيت على الأرض سلطة إجراءات: رواتب وتصاريح وتصريحات.
النتيجة بنيويّة: يُترجم الاستيطان خططه على مهل، فيما ينشغل جهاز السلطة بالسيطرة على “البيت الداخلي” تحت لافتة “منع الفوضى”، حتى صار كثير من الفلسطينيين يعاينون سلطة فاعلة حينًا على المواطن، وعاجزة دائمًا أمام المستوطن.
لماذا يفشل نهج سحب الذرائع؟
لأن المشكلة ليست في “ذريعة” يسوقها الاحتلال، بل في مشروع يواصل التوسع سواء احتج الفلسطيني أم صمت.
وقد أكدت تجارب السنوات أن تقليص التظاهرات وحصر العمل الشعبي وشيطنة المقاومة لم يخفض وتيرة القتل أو المصادرة أو الهدم؛ بل زاد كلفة الصمت بتقهقر جغرافي ونفسي، وتآكل القدرة المجتمعية على الردّ. الاستيطان لا ينتظر سببًا؛ ذريعته الوحيدة هي استمرار ميزان القوة بلا كلفة سياسية أو قانونية تُذكر.
وتحذر تقارير أممية ومنظمات حقوقية من ترحيل قسري ممنهج يرقى إلى جرائم حرب، لكن المجتمع الدولي يمارس أعلى درجات اللا-فعل: بيانات قلق، زيارات وفود، ثم عودة إلى العمل كالمعتاد.
ويتم ذلك ليس لأن الأدلة ناقصة، بل لأن إدارة الصراع تغلب حله في حسابات العواصم. وبين القانون والأمر الواقع، ينتصر دومًا من يملك الإرادة والقدرة على فرض الوقائع—وهنا، التفوق لصالح الاستيطان.
كيف تُكسر الحلقة؟ أربع حركات متزامنة
ميدانيًا: إعادة بناء بنية حماية مجتمعية سلمية صلبة—لجان حراسة ليلية، شبكات إنذار، توثيق مرئي مركزي، ومرافقة قانونية مباشرة للمجتمعات المهددة؛ هذه أدوات تخفض هامش اعتداء “الذئاب المنفردة» من المستوطنين، وتحوِّل كل هجوم إلى قضية مُوثَّقة لا إشاعة عابرة.
قانونيًا: نقل الملفات من “تقارير» إلى مذكرات ادعاء أمام الولاية القضائية العالمية، واستهداف سلسلة القيادة السياسية والعسكرية للمستوطنات—لا المنفّذين فحسب—بالتوازي مع الضغط لفرض أوامر تقييد على جمعيات المستوطنين الممولة من الخارج.
اقتصاديًا/دبلوماسيًا: توسيع جبهة المقاطعة الانتقائية المرتبطة بمؤشرات واضحة (منتجات المستوطنات، شركات البنية التحتية الاستيطانية) وربطها بحملات مساهمة مؤسسية (جامعات، صناديق تقاعد). إن رفع الكلفة الاقتصادية يبدّل حسابات المستفيدين.
فلسطينيًا سياسيًا: كسر معادلة “السلطة الإدارية» عبر تعريف وظيفة السلطة بوصفها حارسة للناس لا حاجبًا عند بوابة الاحتلال: وقف مطاردة الفعل الشعبي، فتح مساحة العمل الأهلي، مجلس وطني انتقالي يضخ شرعية تمثيلية، ومراجعة شاملة للتنسيق الأمني بوصفه مُعطّلًا للحماية الشعبية.
من يوقّف إطلاق النار في الضفة؟
ليس ثمة اتفاق يوقعه طرفان متكافئان؛ هناك كلفة تُرفَع على المعتدي حتى يَكُفّ. وهذا يبدأ من تحويل الضفة من ساحة سهلة إلى رقعة مكلفة سياسيًا واقتصاديًا وقانونيًا. أما الرهان على سلطةٍ منزوعٍ عنها قرار السيادة، فليس سوى تمديدٍ لحكم الإعدام البطيء.
ويقول الأسمر إن الضفة تُقتل ببطء لأن الرصاصة لا تُسمع رصاصة ورقٍ إداري، وغارة جرافة، وقرار مستوطنة، وكمين طريق.
ويشدد على أن إيقاف هذا الإطلاق الصامت يستلزم ضجيجًا منظمًا: فعلًا مجتمعيًا موثقا، وقانونًا مُفعلًا، واقتصادًا مسيسا، وقيادة تعكس إرادة الناس لا إرادة التنسيق الأمني.