شبكة افيخاي في خدمة الترهيب الإسرائيلي لفرض التهجير القسري

منذ الأيام الأولى لحرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة على غزة منذ نحو عامين، تعمل ماكينة دعائية إسرائيلية متماسكة على دفع المواطنين نحو خيار واحد: المغادرة لفرض التهجير القسري.
في قلب هذه الماكينة تقف “شبكة أفيخاي” نسبة إلى الناطق باسم جيش الاحتلال افيخاي ادرعي، الذي يطلق روايات مدروسة سرعان ما تتلقفها الشبكة عبر الحسابات المرتبطة بخطابه؛ فتكررها، وتضخمها، وتحوّلها إلى “حقيقة شائعة” تضغط نفسيًا واجتماعيًا على الفلسطينيين.
المثال الأبرز هو مزاعم أدرعي الأخيرة بأن حركة حماس تنصب حواجز في الطرقات لمنع الأهالي من النزوح، وهو ادعاء لم يسنده بدليل مستقل، لكنه صيغ بذكاء تعبوي يتضمن حتى رقمًا للإبلاغ عن “حواجز حماس”، ما يمنح الرواية مسحة “خدمة عامة” ويشجّع جمهورًا محبطًا على التفاعل معها.
ولا يقف الأمر عند صياغة مزاعم عامة؛ فادرعي يعمد إلى تثبيتها بلغة تصعيدية: “حملة هستيرية تقودها حماس لمنع السكان من الانتقال” تتضمن “تهديدات وحواجز ومنشورات”، وهي صياغات تصب في اتجاه واحد: تصوير كل بقاء في المدينة كخضوع قسري لميليشيا، وكل مغادرة كخلاص شخصي.
هذه الثنائية الحادة هي الوقود الذي تعيش عليه الدعاية الحربية؛ فهي تجرد الناس من سياقهم الإنساني وتختزل قرارهم في معادلة أمنية يديرها الجيش وحده.
شبكة أفيخاي ويكيبيديا
ما إن يغرد ادرعي حتى تبدأ “شبكة افيخاي” بتكثيف النشاط الدعائي: حسابات لشخصيات فلسطينية وعربية عميلة تتبنى الفكرة نفسها وتعيد نشرها بصيغ مختلفة “من الداخل”، وكأنها شهادات شهود.
هنا يتحول المحتوى من منشور متحدث عسكري إلى “رأي عام” يلوم الضحية: لماذا لا ترحلون إذن؟ لكن على الأرض، الواقع أكثر قسوة وتعقيدًا؛ فحتى الطرق التي يُعلن عنها كـ“آمنة” كانت في حالات موثقة مسرحًا لمجازر وعمليات قصف أودت بحياة مئات النازحين، ما يقوّض أصل الدعوى بأن المشكلة في “منع” الناس من الحركة، ويعيد إبراز الخطر الكامن في مسارات النزوح ذاتها.
نموذج آخر من هندسة السرد يتولاه حساب “المنسق” (COGAT): منشورات متكررة عن مغادرة عشرات أو مئات المرضى والمرافقين من غزة لتلقي العلاج في دول عدة، من الإمارات والأردن إلى المملكة المتحدة وبلجيكا ورومانيا.
تُعرض هذه المعطيات على أنها براهين على “ممرات إنسانية” فعالة، فتلتقطها شبكة افيخاي وتغلفها برسالة ناعمة موجهة لسكان غزة: أبواب العالم مفتوحة، غادروا.
لكن ما يُخفى هنا أن تلك الرحلات انتقائية وشديدة التقييد، تمر عبر غربلة أمنية وسياسية قاسية، وأنها تستخدم أكثر مما تُصمّم كأداة ضغط معنوي لإقناع الناس بأن الحل الواقعي لحياتهم هو الرحيل الدائم.
وتكشف الأرقام الأوسع المفارقة: نعم، جرى تنفيذ عمليات إخلاء طبي إلى أوروبا بجهود دولية وإقليمية، بينها عمليات نسقها الاتحاد الأوروبي مباشرة من غزة؛ لكن الحصول على الإجلاء يظل مسارًا بالغ الصعوبة والبطء، وتؤكد تقارير دولية أن مئات المرضى، بينهم أطفال، توفوا وهم ينتظرون موافقات الاحتلال للسفر.
أي أن “قصص النجاح” التي تتباهى بها الدعاية هي رأس جبل جليدي من الرفض والتأخير والتقييد، ما يجعل استخدامها كملصق دعائي للتهجير القسري تضليلًا متعمدًا لواقع المسارات الطبية.
التهجير القسري من غزة
تعمل شبكة افيخاي وفق آلية ثلاثية: (1) افتراض اتهامي يحمّل الضحية المسؤولية عن بقائها، مثل سردية “حواجز حماس”.
(2) تضخيم إعلامي عربي محلي يمنح الاتهام صدقية اجتماعية ويحوّله إلى ضغط أخلاقي على المواطنين في غزة.
(3) إسناد انتقائي بأرقام وصور عن “إخلاءات” أو “ممرات” لتبرير رسالة جوهرها: الأفضل لكم أن ترحلوا.
النتيجة من ذلك صناعة شعور عام بأن البقاء والصمود مخاطرة فردية، وأن النزوح قرار عقلاني، بينما يغيب عن الخطاب أن التهجير الجماعي في سياق الحرب والاحتلال ليس “خيارًا إنسانيًا” بل نمطًا من الجرائم المنصوص عليها في القانون الدولي الإنساني.
وحين يُشاع أن فصائل فلسطينية تمنع أهاليها من النجاة، وأن الجيش وحده هو “الضامن لطريق آمن” و“نافذة علاج في أوروبا”، تُعاد صياغة العلاقة بين المحتل والمجتمع المحلي بوصفها علاقة “حماية مقابل طاعة”.
هذا قلبٌ للواقع: إذ كيف يُصدَّق الوعد بالأمان ممن يقصف أحياءً بكاملها ويحول مستشفيات إلى خرائب؟ وكيف يُقدم النزوح بوصفه علاجا فرديا لمأساة صُنعت سياسيا وعسكريا؟.
وبحسب مراقبين فإن الدعاية هنا لا تنفصل عن الاستراتيجية: إضعاف التماسك الاجتماعي، كسر الإرادة الجمعية، وتجريد المواطنين من حقهم الطبيعي في البقاء على أرضهم.
لذلك، فإن تفكيك شبكة افيخاي لا يكون بالرد الانفعالي، بل ببناء مضاد للسرد قائم على ثلاث ركائز: توثيق مهني يفضح زيف “الطرق الآمنة” عندما تتحول إلى مصائد موت؛ قراءة نقدية لبيانات المنسق تكشف ضآلة ما يُسمح به مقارنة بحجم الحاجة الهائل وتعسف آليات الاختيار.
إلى جانب إبراز المركزية القانونية والأخلاقية لرفض التهجير القسري باعتباره هدفًا للحرب لا نتيجة جانبية لها.
بين منشور متحدث عسكري ومئات آلاف المصائر العالقة، تتبدى الحقيقة البسيطة: هذه شبكة دعاية تُدار لخدمة مشروع ترحيل ممنهج، لا “شبكة إرشاد” لحماية المدنيين.
وعلى الإعلام والجمهور العربي ألا يقعا في فخ تحويل الاستثناءات المقيدة إلى سردية خلاص، بينما الأصل هو حماية الحق في البقاء، لا التسويق لرحلة بلا عودة.