السلطة الفلسطينية كوكيل أمني مجدداً للاحتلال

تعود السلطة الفلسطينية لتؤكد دورها كوكيل أمني للاحتلال الإسرائيلي، بتنفيذ عملية عسكرية في جنين ضد ما وصفته بـ”ورشة لتصنيع العبوات الناسفة”.
فقد أعلنت أجهزة الأمن الفلسطينية، بقيادة اللواء أنور رجب، عن مصادرة قذائف وعبوات متفجرة ومعدات “تُستخدم في تنفيذ عمليات”، بزعم أنها تعود لـ”خارجين عن القانون”، في عملية تعيد إلى الأذهان وظيفة السلطة الأساسية التي قامت عليها منذ توقيع اتفاق أوسلو: تفكيك بنى المقاومة وملاحقة من يرفض الاحتلال.
مقاومة الاحتلال تُجرّم… والعدو يُهادن
تصريحات الناطق باسم قوى الأمن، التي بثتها وكالة الأنباء الرسمية “وفا”، تتطابق في مضمونها ولغتها مع بيانات جيش الاحتلال الإسرائيلي.
فالحديث عن “خارجين عن القانون”، و”ورشة لصناعة المتفجرات”، و”مواد شديدة الانفجار”، هو ذات الخطاب الذي تستخدمه تل أبيب لتبرير قتل المقاومين وهدم منازلهم واعتقال عائلاتهم.
الفرق الوحيد أن من يردده اليوم هم فلسطينيون، يفترض أنهم يمثلون “القيادة الشرعية”، ولكنهم تحولوا إلى أداة لقمع أي فعل مقاوم خارج عن منظومة التنسيق الأمني.
في الوقت الذي يُقتل فيه أطفال غزة بقنابل أمريكية الصنع، وتُدمر مخيمات شمال القطاع بالكامل، وتُشن حملات مسعورة في طولكرم ونابلس وجنين، يرى قادة السلطة أن “الخطر” الحقيقي هو وجود عبوة ناسفة في منزل أحد المقاومين، أو كاميرات مراقبة توثق تحركات الجيش، أو بطاريات تُستخدم لتفجير عبوة في دورية عسكرية إسرائيلية.
هذا المنطق المقلوب، الذي يساوي بين الضحية والجلاد، لم يعد مجرد خطأ سياسي، بل بات سلوكًا وظيفيًا نابعًا من عقيدة أمنية راسخة ترى في المقاومة تهديدًا، لا وسيلة للتحرر.
التنسيق الأمني: العمود الفقري للسلطة
منذ سنوات، لم تخف السلطة الفلسطينية أن أحد أركان بقائها هو التنسيق الأمني مع الاحتلال. بل إن رئيسها محمود عباس وصفه في أكثر من مناسبة بأنه “مقدس”.
ورغم الانتقادات الواسعة، والاعتراف بأن دولة الاحتلال لا تلتزم بأي من التزاماتها، استمرت أجهزة الأمن في ملاحقة المقاومين، واعتقال الطلبة والنشطاء، وتسليم المعلومات الاستخباراتية التي تُستخدم لاحقًا في عمليات اغتيال واعتقال جماعية.
عملية جنين الأخيرة ليست استثناءً، بل جزء من سلسلة طويلة من العمليات التي تستهدف البنية التحتية للمقاومة في الضفة.
فقد شهدنا في العامين الأخيرين تصاعدًا في التنسيق الاستخباراتي بين الأمن الفلسطيني والجيش الإسرائيلي، خاصة في المناطق التي تشهد نشاطًا للمجموعات المسلحة المستقلة، مثل كتيبة جنين وعرين الأسود.
وبدل أن تُساند السلطة هذه النواة الشعبية التي خرجت من رحم الإحباط والانقسام، تعاملت معها كعدو يجب تفكيكه، حفاظًا على “النظام العام”، أي النظام الذي يبقي السلطة وكيلاً محليًا لسلطة الاحتلال.
انفصام قيادة السلطة
الفجوة بين السلطة والشعب الفلسطيني لم تعد قابلة للترقيع. في الوقت الذي يرى فيه الناس في الضفة وغزة أن إسرائيل هي العدو المركزي، ترى السلطة أن “السلاح غير الشرعي” هو التهديد الأبرز.
وفي الوقت الذي تتكاتف فيه العائلات لإيواء النازحين، وتُطلق المبادرات الشعبية لإرسال المساعدات، تحرص السلطة على ضبط الحدود، ومنع أي تحرك شعبي قد يخرج عن “السيطرة”. وفي الوقت الذي يشيع فيه الناس أبناءهم الذين قُتلوا برصاص الاحتلال، تواصل السلطة حماية التنسيق الأمني كخط أحمر لا يُمس.
هذا الانفصام لا يُفسر فقط بضعف القيادة أو ارتهانها السياسي، بل يعود إلى بنية السلطة نفسها، التي بُنيت وفق معادلة: حكم محدود مقابل أمن شامل لإسرائيل.
فالأجهزة الأمنية الفلسطينية، التي تستنزف نحو 30% من موازنة الحكومة، لا تعمل وفق رؤية وطنية للتحرر، بل ضمن مهمة واضحة: منع اندلاع انتفاضة جديدة، وتفكيك أي بنية عسكرية لا تخضع لإمرة رام الله.
خنجر مسموم في الظهر
عملية جنين، في لحظة فارقة من تاريخ الشعب الفلسطيني، لا يمكن تفسيرها إلا كطعنة في ظهر المشروع الوطني، وخدمة مجانية للاحتلال.
فبينما فشلت دولة الاحتلال في القضاء على مقاومة غزة بعد أكثر من عام ونصف من حرب الإبادة وإطلاق مئات آلاف القذائف الجوية، تأمل اليوم أن تتكفل السلطة بما تبقى من المقاومة في الضفة الغربية.
وكما حدث في الانتفاضة الثانية، حيث شكّلت أجهزة الأمن الفلسطينية غطاءً لاغتيالات وقمع داخلي، تُعاد اليوم التجربة نفسها بصيغة أكثر إذلالًا، في ظل صمت دولي، وتشجيع أميركي، وتواطؤ عربي.
إن تجريم تصنيع عبوات ناسفة لمواجهة دوريات عسكرية مدججة بالسلاح، في مدينة كجنين التي تُقتحم أسبوعيًا، هو في ذاته انقلاب على كل مفاهيم النضال الوطني.
فمن يملك اليوم الشجاعة ليقول إن الفلسطينيين ممنوعون من الدفاع عن أنفسهم؟ ومن يمنح الاحتلال “شرعية أمنية” لتجريد شعب تحت الاحتلال من كل أدوات المقاومة؟ الجواب واضح: السلطة، التي رضيت بدور الوكيل، ولم تعد ترى في التحرير هدفًا، بل في “الاستقرار الأمني” إنجازًا.
مستقبل سلطة بلا شرعية
إن استمرار السلطة في هذا المسار سيؤدي لا محالة إلى نهايتها السياسية والشعبية. فهي تفقد يوميًا ما تبقى من شرعيتها، وتتحول من سلطة انتقالية إلى أداة عقيمة تعيق أي مشروع وطني جاد.
والمفارقة أن ما تبقى من رمزية “الشرعية” التي تتذرع بها، يُهدر يوميًا عبر هذه الممارسات التي تضعها في مواجهة مباشرة مع أبناء شعبها.
ما يحتاجه الشعب الفلسطيني اليوم ليس “ورشة عمل أمنية” لتجريد المقاومين من أدواتهم، بل وحدة وطنية حقيقية، تعيد الاعتبار لفكرة النضال، وترسم خارطة طريق جديدة قوامها الصمود والمقاومة والانتماء الجمعي. أما السلطة، بشكلها الحالي، فلم تعد تمثل إلا خنجرًا مسمومًا في ظهر قضية تُسفك دماؤها يوميًا في غزة والضفة على حد سواء.