إعلام حركة فتح… سقوط مدوٍ يتغذى على مأساة غزة والمزايدات الرخيصة

في مشهد يعكس التدهور الأخلاقي والسياسي العميق لوسائل إعلام حركة فتح، تواصل هذه المنابر – وفي مقدمتها قناة “العودة” – الانحدار في خطابها، عبر استغلال مأساة غزة والمعاناة الإنسانية والاغتيالات المروعة لتحقيق مكاسب سياسية ضيقة، وتصفية حسابات مع فصائل المقاومة الفلسطينية.
هذا الانحدار لا يعكس فقط أزمة مهنية، بل يؤكد انخراط هذه الوسائل في حملة دعائية تتساوق مع رواية الاحتلال الإسرائيلي، في لحظة تاريخية حساسة تشهد حرب إبادة ممنهجة ضد الشعب الفلسطيني.
تسجيل الشهيد أنس الشريف… من وثيقة مقاومة إلى أداة ابتذال
أحدث الأمثلة على هذا الانحدار تمثّل في قيام قناة “العودة” وغيرها من منصات إعلام فتح بإعادة نشر واسع النطاق لتسجيل منسوب للشهيد الصحفي أنس الشريف، الذي اغتالته قوات الاحتلال في غزة.
التسجيل الذي كان من المفترض أن يُقرأ في سياقه الطبيعي كصرخة إنسانية لوقف الحرب ورفع الحصار، تم توظيفه بانتقائية فجّة في إطار مزايدات سياسية تستهدف المقاومة.
وبدلاً من تقديم التسجيل بوصفه شهادة على بشاعة العدوان الإسرائيلي وجرائمه الممنهجة، ركزت وسائل إعلام فتح على اقتطاع العبارات التي يمكن تأويلها على أنها انتقاد للمقاومة وتحميلها مسئولية استمرار الحرب، في محاولة مكشوفة لإبعاد التهمة عن الاحتلال، وتخفيف الضغط الدولي المتصاعد ضده.
المزايدة على الدم الفلسطيني
هذا الاستخدام المبتذل لمأساة غزة يعكس أسلوباً رخيصاً في المزايدة على الدم الفلسطيني.
فبينما تُواصل آلة الحرب الإسرائيلية تدمير القطاع وإبادة سكانه، تنشغل منصات فتح بانتقاء مواد تُخدم أجندتها الداخلية، بدلاً من توحيد الخطاب الإعلامي الفلسطيني في مواجهة العدوان.
اللافت أن هذا النمط يتكرر منذ بداية الحرب، حيث درج إعلام فتح على إعادة إنتاج سردية الاحتلال التي تركز على مسؤولية المقاومة عن الدمار والحصار، متجاهلاً الحقائق الثابتة حول تعمد إسرائيل قطع الإمدادات واستهداف المرافق الصحية والتعليمية ومخازن الغذاء.
تبييض جرائم الاحتلال
إعادة نشر تسجيل أنس الشريف بهذه الصيغة لا يمكن فصلها عن مسار أوسع لتبييض جرائم الاحتلال في الوعي العام.
فعندما تُستخدم كلمات شهيد – قضى في عملية اغتيال إسرائيلية – لإدانة فصائل المقاومة بدلاً من إدانة القاتل، فإن الرسالة التي تصل للرأي العام، محلياً ودولياً، هي أن الخطر الأكبر على الفلسطينيين ليس الاحتلال، بل مقاومتهم.
هذه الصيغة تخدم مباشرة الخطاب الإسرائيلي الذي يسعى منذ عقود إلى نزع الشرعية عن المقاومة وتحميلها وزر الكوارث التي تصنعها آلة الحرب الإسرائيلية.
أزمة مهنية وأخلاقية
من الناحية المهنية، يمثل ما جرى خرقاً صارخاً لأبسط قواعد العمل الصحفي، وفي مقدمتها التحقق من السياق والنوايا وعدم اجتزاء الحقائق.
أما من الناحية الأخلاقية، فإن توظيف مأساة فردية بحجم استشهاد أنس الشريف – وهو الصحفي الذي وثّق بدمه مجازر الاحتلال – في معارك دعائية داخلية، يكشف حالة الانفصال التام عن نبض الشارع الفلسطيني الذي يرى في هذه الممارسات طعنة في ظهر الوحدة الوطنية.
استغلال الاغتيالات كأوراق دعائية
لا يتوقف الأمر عند حالة أنس الشريف؛ إذ دأبت منصات فتح على استغلال عمليات الاغتيال التي تستهدف كوادر المقاومة والصحفيين والنشطاء لتوجيه رسائل ضمنية أو مباشرة بأن استمرار الحرب سببه تمسك المقاومة بسلاحها أو مواقفها.
هذه الصيغة تكرر حرفياً خطاب الاحتلال، الذي يسعى لإقناع العالم بأن الحرب خيار فلسطيني، لا عدوان إسرائيلي.
وبذلك تتحول الشاشات والصفحات المحسوبة على فتح إلى أدوات حرب نفسية، تُضعف الجبهة الداخلية وتبث الشك في عدالة المقاومة، بدلاً من أن تكون منصات تعبئة وفضح للجرائم.
خسارة المصداقية وتآكل التأثير
هذه السياسة الإعلامية أدت إلى تآكل سريع في مصداقية وسائل إعلام فتح، حتى بين جمهورها التقليدي. ففي زمن الانفتاح الرقمي وتعدد المصادر، بات الجمهور قادراً على التحقق من المعلومات، ومقارنة الروايات، ورصد التلاعب بالسياق.
وبدلاً من تعزيز الثقة، تعمّق هذه الممارسات الفجوة بين الإعلام الفتحاوي والمزاج الشعبي العام، الذي يزداد انحيازاً للمقاومة في ظل المجازر اليومية.
تأثيرات سياسية خطيرة
إعلام فتح بهذا السلوك لا يضر فقط بسمعته، بل يمنح الاحتلال هدية مجانية على المستوى الدولي. فكلما استطاعت إسرائيل الإشارة إلى وجود “خلافات فلسطينية داخلية” تلقي باللوم على المقاومة، كان ذلك ذريعة لإطالة أمد الحرب ورفض أي التزامات سياسية أو إنسانية.
كما أن هذه الانقسامات الإعلامية والسياسية تمنح الحكومات الغربية ذريعة لعدم الضغط الجدي على إسرائيل، بحجة “غياب الشريك الفلسطيني الموحد”، وهي الحجة التي تُستخدم منذ سنوات لتبرير تعطيل أي مسار تفاوضي.
ويؤكد مراقبون أن الخطاب الإعلامي المنقسم في خضم الإبادة الجماعية لا يؤدي إلا إلى إضعاف الموقف الفلسطيني أمام المجتمع الدولي، ويعزز سرديات العدو.
ويشدد هؤلاء على أن توظيف المآسي الفردية والجماعية في مزايدات سياسية رخيصة ليس فقط سقوطاً مهنياً، بل هو انحراف وطني خطير يضعف القضية برمتها.
وإن استشهاد الصحفي أنس الشريف وأمثاله يجب أن يكون حافزاً لتوحيد الصف والخطاب، لا منصة لتبادل الاتهامات وتبرئة المحتل. فالإعلام الفلسطيني، إذا أراد أن يكون على قدر تضحيات شعبه، عليه أن يتبنى خطاباً مهنياً ومقاوماً يفضح الجرائم، ويحشد الرأي العام الدولي، بدلاً من أن يتحول إلى أداة في يد الاحتلال عبر ألسنة فلسطينية.