تطبيع في زمن المجازر: خيانة عربية تتستر بشعارات “الاستقرار”

عبّر الباحث الإسرائيلي “إيال زيسر” عن دهشته من “التزام الدول العربية باتفاقيات إبراهيم” للتطبيع العربي الإسرائيلي رغم مرور ما يقارب العامين على اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة ومحاولة التستر بشعارات “الاستقرار”.
لكن الأدهى من دهشته هو ترويج هذا الالتزام كخطوة “نحو الأمن الإقليمي”، وكأن استمرار القتل والتجويع والدمار في غزة مجرد تفصيل عابر لا يستدعي إعادة نظر في المسارات السياسية العربية، لا سيما التطبيعية منها.
من زاوية إسرائيلية، مفهوم أن يعتبر زيسر في مقاله المنشور في صحيفة (إسرائيل هيوم) العبرية، التمسك العربي بالتطبيع “مفاجئًا وإيجابيًا”، لكن من زاوية إنسانية وعربية، لا يمكن وصف هذا السلوك إلا بالخيانة الصريحة للشعب الفلسطيني، وتواطؤ سياسي مكشوف مع آلة الحرب الإسرائيلية التي لم تتوقف عن القتل والتدمير منذ 7 أكتوبر 2023.
حين يصبح الصمت موقفًا والتواطؤ سياسة
مرّت على حرب غزة أكثر من 19 شهرًا، كانت كافية لتُظهر من يقف مع الشعب الفلسطيني ومن تخلّى عنه.
ومع كل مجزرة جديدة، كانت دول “التطبيع” تزداد تشبثًا بعلاقاتها مع إسرائيل، بل وتحرص على إبراز هذه العلاقة بوصفها “خيارًا استراتيجيًا” لا رجعة فيه.
السعودية والإمارات والبحرين والمغرب، وحتى من لم يعلن تطبيعًا رسميًا، كلها تبنّت سياسة الصمت، أو الاكتفاء ببيانات شجب باهتة لا ترقى حتى لمستوى التضامن الرمزي.
هذا الموقف يتناقض كليًا مع نبض الشارع العربي، الذي لا يزال يعبّر عن غضبه ورفضه لهذه العلاقة المهينة مع كيان يمارس التطهير العرقي على مرأى ومسمع من العالم.
وفي الوقت الذي يتعرض فيه أكثر من مليوني إنسان في غزة للحصار والتجويع والقتل المنهجي، تواصل هذه الأنظمة فتح أبوابها لزيارات إسرائيلية وفعاليات مشتركة، وحتى توقيع اتفاقات تعاون في مجالات الأمن والتكنولوجيا والزراعة.
تجاهل الدم الفلسطيني
زيسر يرحب بزيارة ترامب الأخيرة للمنطقة، ويرى فيها “فرصة لتعزيز اتفاقيات إبراهيم” وتوسيعها لتشمل دولًا أخرى مثل لبنان وسوريا.
وهو بذلك لا يكتفي بتجاوز الكارثة الإنسانية في غزة، بل يسعى إلى دفنها تحت ركام “مشاريع الاستقرار” التي تقودها واشنطن وتستثمر فيها أبوظبي والرياض وتل أبيب.
والأخطر في سرديته هو تقديم فكرة أن “المعركة في غزة أصبحت من الماضي”، وكأن مأساة الفلسطينيين انتهت أو أصبحت بلا أهمية، وكأن أكثر من 60 ألف شهيد – معظمهم من الأطفال والنساء – مجرد تفصيل تاريخي يمكن تجاوزه.
هذه اللغة ليست تحليلًا سياسيًا، بل محاولة لطمس جريمة مستمرة، والتغطية على مشروع استعماري يهدف إلى إخضاع الفلسطينيين بالكامل وإعادة هندسة الجغرافيا السياسية للمنطقة بما يخدم إسرائيل وحدها.
الحوثيون وإيران كفزّاعة للتطبيع
كعادتها، تستخدم النخبة الإسرائيلية التهديد الإيراني، وخطر الحوثيين، كذريعة للتقارب مع الدول العربية، وتبرير العلاقات الأمنية والعسكرية معها.
في هذا السياق، يُصور زيسر إطلاق الحوثيين صواريخ نحو دولة الاحتلال كمؤشر على هشاشة الوضع الإقليمي، ويحمّل واشنطن مسؤولية “اللين الزائد” تجاه طهران.
الرسالة الضمنية واضحة: (إسرائيل) بحاجة إلى غطاء عربي وإقليمي للتصدي لإيران – وهذا الغطاء لا يتحقق إلا من خلال مزيد من التطبيع.
لكن هذه السردية تتجاهل الحقيقة الأهم: أن مصدر التهديد الأكبر للاستقرار في المنطقة هو الاحتلال الإسرائيلي ذاته، الذي يشعل الحروب، ويُنتج ردود فعل مسلّحة، ثم يتظاهر بأنه ضحية.
وتشارك بعض الأنظمة العربية في ترويج هذه الرواية، عن وعي أو مصلحة، ما يجعلها شريكة مباشرة في إنتاج الفوضى وليس في مواجهتها.
هندسة إقليمية جديدة بلا فلسطين
مقال زيسر، وموقف حكومته، يعكسان طموحًا إسرائيليًا أبعد من مجرد تجاوز حرب غزة. إنه مشروع لإعادة ترتيب المنطقة على أسس جديدة: (إسرائيل) في القلب، والفلسطينيون في الهامش أو خارج المعادلة تمامًا.
هذا المشروع يتطلب شركاء عربًا مستعدين للتخلي عن فلسطين، مقابل وعود بالاستقرار، والتقارب مع واشنطن، وحماية من “الخطر الإيراني”.
للأسف، لا ينقص هذا المشروع سوى توقيع من الأنظمة العربية المطبعة، التي باتت ترى في العلاقة مع دولة الاحتلال ضرورة أمنية واقتصادية، حتى على حساب دماء الشعب الفلسطيني.
خيانة مكشوفة والمستقبل للمقاومة
ما يُعرض اليوم على طاولة الإقليم هو ليس فقط تجاهل غزة، بل التواطؤ على دفنها سياسيًا، وتحويل نكبتها إلى تفصيل هامشي يمكن تجاوزه باسم “اليوم التالي”.
لكن ما تغفله هذه الرؤية هو أن الشعوب – لا الأنظمة – هي من يحدد مصير الصراعات طويلة الأمد. وغزة، رغم جراحها، لا تزال تقاتل، والمقاومة فيها لا تزال تشكل نقيضًا لكل ما تريده إسرائيل من اتفاقيات وتحالفات.
إن التمسك العربي بالتطبيع في ظل حرب الإبادة هو خيانة مزدوجة: خيانة لفلسطين، وخيانة للكرامة العربية. ومن يقف مع ترامب وتل أبيب اليوم، لن يكون شريكًا في “استقرار” الغد، بل شريكًا في صناعة خراب تاريخي سيلاحقه إلى الأبد.