تحليلات واراء

“نهاية المجاعة في غزة”.. كذبة عربية جديدة للتغطية على التقاعس الجماعي

في مشهد سريالي يختلط فيه العجز بالتواطؤ الإعلامي، أعلنت أربع دول عربية في يوم واحد أنها “نجحت في كسر الحصار الغذائي المفروض على غزة”، و”ساهمت في نهاية المجاعة”، و”ضمنت تدفق المساعدات بشكل يومي”.

عناوين صدرت في بيانات رسمية ومنصات إعلامية واحتفت بها جيوش إلكترونية في مواقع التواصل، لكن الحقيقة على الأرض تكشف مأساة مستمرة لا تعترف بالخطابات، ولا تشبع من التصريحات.

ما جرى خلال الأيام الماضية لم يكن سوى حملة علاقات عامة تستهدف تلميع صورة أنظمة متقاعسة، تحاول أن تضع نفسها في خانة “المنقذين”، بينما تقف عاجزة عن مواجهة الشروط الإسرائيلية أو التحرك بشكل حقيقي لفتح الممرات الآمنة.

فعدد الشاحنات الذي دخل بالفعل – بحسب الأرقام المعلنة – لا يتجاوز 120 شاحنة في اليوم، وهو رقم هزيل مقارنة بالحاجة اليومية المُقدّرة من قبل منظمات إنسانية كبرى بنحو 3000 شاحنة على الأقل، لتبدأ فقط مرحلة رفع غزة من مستوى “الطوارئ القصوى” إلى مستوى “ما قبل المجاعة”.

الخذلان العربي: تواطؤ بالصمت والتصريحات الجوفاء

تُظهر البيانات أن معظم المساعدات التي دخلت القطاع في الأيام الأخيرة إما محمولة على طائرات شحن صغيرة من دول أوروبية، أو عبر تنسيقات محدودة مع المنظمات الدولية.

أما الدول العربية التي تدّعي “قيادة جهود الإنقاذ”، فقد اكتفت بتغطية إعلامية مكثفة حول قوافل رمزية، لا تُقاس بالأرقام ولا تفي بأي معيار إغاثي.

اللافت أن هذه الدول لم تتحرك حين أعلنت الأمم المتحدة في يونيو أن أكثر من نصف سكان غزة – أي ما يزيد على 1.2 مليون إنسان – يواجهون خطر الموت جوعًا.

كما لم تُحرّك ساكنًا حين مات العشرات من الأطفال بسبب الجفاف وسوء التغذية الحاد. لكنها اختارت أن “تظهر” الآن، لتروّج لانتصارات وهمية أمام الكاميرات.

المجاعة في غزة لم تُرفع، بل يجري التعتيم على آثارها عبر آلة إعلامية تمارس التضليل بذات الحرفية التي تتقنها الحكومات في تبرير فشلها في وقف العدوان الإسرائيلي.

متى تنتهي المجاعة فعلاً؟

وفقًا لخبراء الأمن الغذائي، فإن أي حديث عن “نهاية المجاعة” لا يُبنى على صور الشاحنات بل على مؤشرات علمية: تراجع معدل وفيات الأطفال بسبب الجوع، توفر مياه الشرب الآمنة، عودة الأسواق المحلية للحركة، وتوافر الحليب والخبز والخضار والوقود بحد أدنى لكل أسرة.

ولا شيء من هذا تحقق في غزة حتى الآن. ففي كل صباح، لا يزال الأطفال يتساقطون من الإعياء، والنساء يقتتلن على كيس طحين، والمشافي تفتقد للغذاء العلاجي، ومراكز الإيواء تطبخ الماء بالعدس.

أما عن التوزيع العادل للمساعدات – وهو شرط جوهري لأي معالجة للأزمة – فلا يزال خاضعًا للفوضى الأمنية، وسوق السمسرة، وتقييدات الجيش الإسرائيلي.

التضليل الإعلامي: من الإنكار إلى الاستعراض

الحكومات العربية لم تكتفِ بالعجز، بل وظفت أدوات إعلامها لطمس المجاعة عبر أساليب تهويل وتضخيم.

تقارير مفرطة في التفاؤل، تغطيات “عاطفية” تُظهر بضع كراتين مساعدات في مشاهد سينمائية، لقاءات مع متحدثين رسميين يتحدثون عن “إنجازات إنسانية غير مسبوقة”، بينما لا تظهر وجوه الجياع، ولا يسمع أحد صرخات الأطفال الذين يتقيؤون ماءً فاسدًا بدلًا من الحليب.

بل إن بعض المشاهير جرى الدفع بهم لتصوير مقاطع داخل مناطق “توزيع المساعدات”، وُضعت فيها بضائع عمداً للعرض، لا للتوزيع، فقط من أجل أن تكتمل الرواية التلفزيونية بأن “الوضع تحت السيطرة”. ولكن ماذا عن الواقع؟ لا شيء تغير.

من المسؤول؟

تتحمّل دولة الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية المباشرة عن فرض المجاعة من خلال الحصار ومنع تدفق الغذاء. لكن المسؤولية السياسية والأخلاقية لا تتوقف عند حدود الاحتلال.

فالدول العربية – وفي مقدمتها تلك التي تقيم علاقات طبيعية أو أمنية مع دولة الاحتلال – تتحمل المسؤولية عن فشلها في فرض معابر آمنة، ورفضها تفعيل خيارات الضغط الفعلي: سحب السفراء، وقف التجارة، تهديد المصالح الإسرائيلية في العواصم العربية.

في المقابل، اكتفت هذه الدول ببيانات “الأسى”، ومؤتمرات “التعهدات”، ومهرجانات “الدعم المعنوي”، وركنت إلى وهم أن صورتها كداعم لغزة يمكن حمايتها ببضع تغريدات ومقاطع مسرحية.

غزة لا تحتاج صورًا بل فعلًا

المجاعة ليست ظاهرة إعلامية بل واقع قاتل. رفعها لا يكون بإرسال 120 شاحنة ثم الحديث عن “إنجاز تاريخي”. إنهاء المجاعة في غزة يتطلب خطوات حقيقية:

فتح المعابر بالكامل ودون قيود.

إيصال كميات غذاء يومية لا تقل عن 3000 شاحنة.

فرض رقابة دولية على التوزيع العادل.

إنشاء ممرات بحرية آمنة ومستدامة.

محاسبة دولة الاحتلال على استخدامها المجاعة كسلاح.

أما غير ذلك، فهو مجرد تواطؤ عربي جديد، يُستخدم فيه الإعلام غطاءً للفشل الجماعي، ويُترك فيه شعب غزة ليموت ببطء، على هامش نشرات الأخبار وتصريحات المؤتمرات. المجاعة لم تنتهِ… بل أصبحت أكثر “تسويقًا”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى