النظام العربي وتطبيع الإبادة في غزة

منذ أكثر من عام ونصف، يتعرض قطاع غزّة لمذبحة لا سابقة لها من حيث الوحشية، والحجم، والعلنية. مجازر تُبثّ لحظةً بلحظة أمام أعين العالم، وتُرتكب على مرأى ومسمع من البشرية. ومع ذلك، فإن الردّ العربي الرسمي لا يتعدّى بيانات الإنكار أو الصمت المطبق.
وبحسب مراقبين تكمن الخطورة في أن بعض الأنظمة لا تكتفي بعدم الفعل، بل تذهب إلى أبعد من ذلك: تطبيعٌ فعليٌّ مع المجزرة، باعتبارها حدثًا مألوفًا أو خارج دائرة الفعل السياسي الضروري.
ويقول المراقبون إن ما يحدث في غزّة ليس مجرد حرب، بل إبادة جماعية تستهدف المدنيين، وتستهدف مقومات الحياة الأساسية من مستشفيات ومدارس وملاجئ وطواقم طبية.
إذ تحوّلت غزة إلى مسرح يومي لمشاهد الموت، وحقلاً مفتوحًا لتجريب أدوات القتل الجماعي، وسط حصار إنساني وتجويع متعمّد، يرقى إلى جريمة حرب موثقة تخالف كل الأعراف الدولية.
لكن ما يزيد الجرح عمقًا هو الموقف العربي الرسمي. إذ بدلاً من أن تكون غزة نقطة التقاء للمواقف والمصالح القومية، أضحت اختبارًا حاسمًا لفهم طبيعة العلاقة بين هذه الأنظمة وشعوبها، وبينها وبين القيم التي تدّعي الدفاع عنها.
ولم تُقدِم معظم العواصم العربية على أي خطوة عملية توازي هول المجازر: لا سحب سفراء، لا تجميد علاقات، لا عقوبات اقتصادية، ولا حتى ضغط دبلوماسي حقيقي. وبات الصمت موقفًا، بل وأداة سياسية.
من تطبيع مع الاحتلال إلى تطبيع مع المذبحة
ليس التطبيع مع “إسرائيل” جديدًا على المشهد العربي، لكنّ ما يحدث اليوم يتجاوز العلاقات السياسية التقليدية، ليبلغ حدّ التطبيع مع الجريمة ذاتها. ما نقصده هنا ليس فقط بقاء العلاقات مع “تل أبيب” على حالها، بل تغييب الحدّ الأدنى من المواقف الرمزية، كإعلان الحداد أو قطع بث المهرجانات، أو حتى الامتناع عن استقبال المسؤولين الإسرائيليين.
وبهذا المعنى، لم تعد المسألة “اعترافًا بإسرائيل”، بل قبولًا ضمنيًا بحقها في ارتكاب المجازر من دون تكلفة.
وهذا النوع من “التطبيع” مع العنف يدخل ضمن أدوات “التحكّم بالوعي”، حيث يُعاد تشكيل وعي المواطن العربي ليعتبر المجزرة جزءًا من الأخبار اليومية، لا تستوجب أكثر من التأفّف أو الحزن العابر. يُستهدف وعي الشعوب، لا جغرافيتها فقط.
إعادة تعريف القضية الفلسطينية
وفي خضمّ هذا الصمت، يُعاد رسم حدود القضية الفلسطينية. إذ بدأت الأنظمة العربية تدفع باتجاه فصل “المجازر” عن “القضية”، وكأن ما يحدث في غزّة شأن أمني داخلي أو نتيجة صراع بين سلطات محلية، وليس امتدادًا لنكبة مستمرة. ويُعاد تصوير حركات المقاومة على أنها مشكلة، بدل أن تكون نتيجة لمشكلة أكبر هي الاحتلال.
تتحدث بعض العواصم عن “رفض التهجير”، لكنها تتجاهل سياق هذا التهجير القائم على إبادة منهجية. يتحدثون عن “إنهاء الحرب”، لكنهم لا يطالبون بوقف القتل، بل بوقف “الردّ الفلسطيني” و”ضبط الشارع”. في المقابل، لم نرَ حتى اليوم أي تحرّك عربي جادّ لعرض القضية أمام محاكم دولية، أو فرض عقوبات، أو تحريك آليات إقليمية للضغط.
بموازاة ذلك لا يمكن تجاهل غياب المنظومتين الإقليميتين الأكبر، الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، عن ساحة الفعل الجاد. بيانات عمومية متكررة، لا يتبعها أي تنفيذ، ولا تظهر أي متابعة لقرارات القمم المتعددة التي عقدت منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023.
هذا التخاذل يبدو فجًّا عند مقارنته بمواقف دول في أميركا الجنوبية قطعت علاقاتها مع دولة الاحتلال، أو بمحكمة العدل الدولية التي تحرّكت بدعوى من جنوب أفريقيا.
أدوات الإلهاء والخوف
الأنظمة التي لم تُطبّع علنًا، تنتهج مسارات مختلفة لتبرير لا مبالاتها. من جهة، إغراق الشارع العربي في الأزمات اليومية والمعيشية، ومن جهة أخرى ترويج فزّاعة “التآمر” أو “التدخل الأجنبي” لتبرير قمع أي تعبير شعبي عن الغضب.
هنا، لا يُخشى فقط من التضامن مع غزة، بل يُخشى من أن يتحوّل هذا التضامن إلى وعيٍ سياسي أوسع يهدد ركائز النظام السياسي نفسه.
ويمكن تصنيف الأنظمة العربية في تعاطيها مع مذبحة غزّة إلى ثلاث فئات:
أنظمة داعمة ضمنيًا لإسرائيل، تُحمّل المسؤولية للمقاومة، وتروّج لفكرة “التسليم” كحلّ.
أنظمة صامتة وغائبة، لا تبذل جهدًا سياسيًا ولا إنسانيًا يُذكر.
أنظمة تلهي شعوبها، وتواصل تنظيم الفعاليات الرياضية والفنية كأن شيئًا لم يكن، بما يعزز حالة اللامبالاة والتعوّد.
التواطؤ كاستراتيجية
ما يحدث في غزة اختبار غير مسبوق للضمير العربي الرسمي. لم تعد المسألة مجرد “خذلان”، بل باتت تشي بتواطؤ مقصود، أو على الأقل باستراتيجية تحييد شعوب المنطقة عن قضاياها الأساسية.
وبدل أن يُشكّل العدوان الإسرائيلي لحظة يقظة عربية، تحوّل إلى لحظة صدمة تُدار بالتخدير أو التشتيت أو القمع.
التطبيع مع المذبحة أخطر من التطبيع السياسي، لأنه يعيد تعريف مفهوم العدو، ويُفرّغ فكرة المقاومة من مضمونها، ويجعل من الضحية مجرّد مشهد تلفزيوني يُستهلك ثم يُنسى.
إن استمرار هذه السياسات، إن لم يُواجه بوعي شعبي عابر للحدود، سيجعل من المجازر القادمة أكثر دموية، ومن الصمت العربي أكثر رسوخًا، ومن الاحتلال أكثر جرأةً في تنفيذ أحلامه التوسعية.