غزة.. بين القتل اليومي والتعايش العربي رغم فداحة المأساة الإنسانية

منذ ما يقرب من عامين، وغزة تتعرض لمجزرة مستمرة بفعل القتل اليومي لسكانها، بحيث يسقط فيها ما لا يقل عن 70 إنسانًا يوميًا، بينهم أطفال يموتون جوعًا ونازحون ينتظرون المساعدات في طوابير الموت.
ومع ذلك، فإن ردود الفعل العربية – شعوبًا وحكومات – لم تتجاوز حدود الدموع الصامتة والدعوات العابرة. فقد أصبح مشهد الجثث الممزقة، والوجوه المحترقة، والدماء النازفة من سيارات الإسعاف والمستشفيات المستهدفة، أمرًا مألوفًا، لا يثير سوى قدر محدود من الانفعال.
ويؤكد الكاتب المصري وائل قنديل أن هذا التعايش العربي مع الإبادة لم يعد مجرد تقاعس أو عجز؛ بل تحول إلى حالة قبول جماعية، وكأن قتل الفلسطينيين بات جزءًا من روتين الأخبار اليومية الذي لا يغيّر شيئًا في الواقع السياسي أو الشعبي.
الحكومات العربية.. خطاب بائس وفعل غائب
على المستوى الرسمي، يتكرر المشهد ذاته: بيانات تنديد، خطابات استنكار، ووساطات عقيمة.
وتقدم الأنظمة العربية نفسها كـ”وسطاء أوفياء”، يطرقون أبواب المجتمع الدولي، يستجدون موقفًا من الولايات المتحدة أو من تل أبيب. لكن خلف هذه الشعارات، يختفي واقع مرير:
الوساطات بلا وزن: الحكومة الإسرائيلية تتجاهل كل مقترح وتستهين بكل جهد.
التطبيع الاقتصادي والسياسي: دول عربية تواصل تعزيز علاقاتها التجارية والأمنية مع الاحتلال، بينما تتحدث في العلن عن “رفض التهجير” و”دعم القضية”.
غياب الردع العملي: لم يصدر حتى اليوم إجراء عربي واحد قادر على تعطيل أو كبح مشروع التهجير والاستيطان.
والنتيجة: دولة الاحتلال تواصل مشروعها الإبادي، غير آبهة بمناشدات ولا بيانات.
حرب الإبادة على غزة
أخطر ما في هذا التعايش هو الازدواجية: أنظمة عربية ترفع شعار دعم المقاومة والشعب الفلسطيني، بينما هي عمليًا جزء من شبكة التطبيع والتعاون مع دولة الاحتلال.
إذ يُطلب من الشعوب أن تصدق أن التجارة والاتفاقيات الأمنية مع العدو لا تتناقض مع “الدعم القومي”، بينما يُتهم كل من يطالب بموقف شجاع وواضح بأنه عميل أو يخدم الرواية الصهيونية.
هذه المعادلة المفخخة كرّست منطقًا عبثيًا: أن تكون شريكًا للاحتلال في النهار، ومناصرًا لغزة في الليل.
ومنذ اندلاع حرب الإبادة الأخيرة على غزة، يتباهى النظام العربي – باستثناءات نادرة – بأنه بذل كل ما بوسعه. لكن على الأرض، النتيجة صفر:، فلا وقف إطلاق نار تحقق ولا حماية للمدنيين توفرت، لا ضغط فعلي مورس على دولة الاحتلال.
ويؤكد قنديل أن استمرار هذا العجز، دون اعتراف بالفشل أو تحمل للمسؤولية، يكشف أن التعايش مع الإبادة لم يعد مجرد عجز مؤقت، بل خيار استراتيجي، هدفه التهرب من مواجهة دولة الاحتلال بأي شكل مباشر.
أما الشعوب العربية، فحالتها لا تقل بؤسًا. بين القمع السياسي والإرهاق الاقتصادي واليأس من جدوى الاحتجاج، أصبح التفاعل مع إبادة غزة لا يتجاوز التدوينات الغاضبة أو الدعوات العابرة. لقد تحوّل الغضب الشعبي إلى ما يشبه طقسًا عاطفيًا موسميًا، بلا أثر سياسي حقيقي.
هكذا، يجد الفلسطينيون أنفسهم في مواجهة ترسانة الاحتلال العسكرية، وفي الوقت ذاته، محاصرين بترسانة من اللامبالاة العربية.
لكن وسط هذا الصمت العربي، تبرز مفارقة صارخة: مشاهد أسطول الصمود الإنساني المنطلق من برشلونة مرورًا بسواحل إيطاليا متجهًا إلى غزة. مئات السفن والمراكب الصغيرة، يقودها آلاف من أحرار العالم، المشاهير والعاديين، يبحرون لكسر الحصار وهم يدركون تمامًا المخاطر بينما تلتزم الحكومات العربية الحياد أو التواطؤ.
التعايش مع العجز جريمة مضاعفة
يشدد قنديل على أن التعايش العربي مع إبادة غزة ليس مجرد ضعف سياسي أو قصور دبلوماسي؛ إنه مشاركة غير مباشرة في الجريمة. فحين تُترك غزة لتقاوم وحدها، بلا دعم حقيقي، يتحول العجز إلى شكل من أشكال التواطؤ.
غزة اليوم لا تواجه فقط طائرات وصواريخ دولة الاحتلال، بل تواجه أيضًا جدارًا من الصمت العربي، الذي يشرعن استمرار الإبادة. وبينما يواصل العالم الحر إرسال قوافل وأسطول تحدٍ، يواصل العرب إصدار بيانات متكررة بلا أثر، وكأنها صدى باهت في فراغ سياسي.
إن التاريخ لن يرحم هذا التعايش، لأنه لم يكن مجرد صمت؛ بل كان تخلّيًا عن فلسطين، وعن القيم القومية والإنسانية معًا.