تحليلات واراء

عباس يقوض القرار الوطني المستقل بعد سنوات من دعاية فتح بالحفاظ عليه

لم يعد الحديث عن “القرار الوطني المستقل” في الخطاب الرسمي الفلسطيني سوى شعارٍ مستهلك يتآكل مع كل خطوة سياسية تتخذها قيادة السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس.

فبعد سنوات طويلة من دعاية حركة فتح التي قدّمت عباس بوصفه “حارس القرار الوطني” في وجه الإملاءات الخارجية، تكشف الوقائع المتراكمة أن هذا القرار قوَّض بفعل الضغوط الخارجية والاستجابة المنهجية لها، حتى بات المشهد أقرب إلى إعلان نعي رسمي لاستقلالية القرار الفلسطيني.

أولى علامات هذا التقويض تتجلى في الاستجابة لمطالب خارجية بوقف أو تقليص رواتب الشهداء والأسرى والمحررين رغم أن هذه القضية شكلت أحد أعمدة الإجماع الوطني الفلسطيني، بوصفها اعترافاً بتضحيات من واجهوا الاحتلال ودفعوا أثماناً شخصية وعائلية باهظة.

ومع ذلك، رضخت قيادة السلطة لضغوط إسرائيلية وأمريكية وأوروبية متواصلة، تحت ذرائع “مكافحة التحريض” أو “الامتثال للمعايير الدولية”، في خطوة فسّرها كثيرون باعتبارها تخلياً سياسياً وأخلاقياً عن أحد ثوابت النضال الوطني.

والأخطر أن هذا التراجع جرى تسويقه داخلياً بوصفه “ضرورة تكتيكية”، فيما كان في جوهره مساساً عميقاً باستقلالية القرار، وإقراراً ضمنياً بحق الآخرين في تعريف من هو “المناضل” ومن هو “الإرهابي”.

السلطة الفلسطينية ويكيبيديا

الملف الثاني الذي يعكس هذا النهج هو القبول بتعديل المناهج الدراسية الفلسطينية استجابة لضغوط خارجية، خصوصاً من إسرائيل وبعض الدول الغربية.

فبدلاً من الدفاع عن الرواية التاريخية الفلسطينية بوصفها حقاً ثقافياً ومعرفياً، دخلت السلطة في مسار “تنقيح” قسري طال مضامين تتعلق بالنكبة والاحتلال والمقاومة.

ومرة أخرى، جرى تسويق الخطوة باعتبارها تحسيناً تعليمياً، فيما رآها قطاع واسع من الأكاديميين والمثقفين محاولة لإعادة هندسة الوعي الفلسطيني بما يتناسب مع شروط الممولين، لا مع متطلبات الهوية الوطنية. هنا أيضاً، بدا القرار الوطني رهينة حسابات التمويل والرضا الدولي، لا نتاج نقاش وطني حر ومستقل.

محمود عباس ويكيبيديا

تتمثل الركيزة الأوضح لتقويض القرار الوطني المستقل في اختزال السلطة الفلسطينية إلى جهاز إداري وأمني، تتمحور وظيفته الأساسية حول “التنسيق الأمني” مع الاحتلال.

فعلى الرغم من التصريحات المتكررة عن تعليق أو وقف هذا التنسيق، ظل الواقع العملي يؤكد استمراره بوصفه العمود الفقري للعلاقة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.

وبمرور الوقت، تحولت السلطة إلى كيان محدود الصلاحيات، يعمل تحت سقف الاحتلال، ويستمد بقاءه من قدرته على ضبط الشارع الفلسطيني أكثر مما يستمده من تمثيل تطلعاته الوطنية.

في هذا السياق، لم يعد الحديث عن “قرار وطني مستقل” سوى مفارقة لفظية، إذ كيف يمكن لقرار أن يكون مستقلاً فيما أدواته الأساسية خاضعة لإدارة وتوجيه القوة المحتلة؟.

وقد شكلت الضغوط العربية بدورها عاملاً مركزياً في هذا المسار، فباسم “الواقعية السياسية” و”تجنب العزلة”، استجابت قيادة عباس لمطالب عواصم عربية سعت إلى تطويع الموقف الفلسطيني بما ينسجم مع أولوياتها الإقليمية، سواء عبر دفع الفلسطينيين إلى مسارات تفاوضية عقيمة، أو عبر الضغط لتخفيف لهجة المواجهة مع تل أبيب.

ومع أن هذه الضغوط لم تكن جديدة تاريخياً، إلا أن الفارق اليوم يكمن في غياب أي توازن أو مناورة حقيقية من جانب القيادة الفلسطينية، التي باتت تتعامل مع هذه الإملاءات باعتبارها قدراً لا فكاك منه.

أما الضغوط الإسرائيلية والأمريكية، فقد اتخذت طابعاً أكثر مباشرة ووقاحة، من خلال ربط الدعم المالي وبقاء السلطة ذاتها بجملة من “الالتزامات” السياسية والأمنية.

أفق الدولة الفلسطينية

اللافت أن استجابة عباس المتكررة لهذه الضغوط لم تُقابل بأي مقابل سياسي حقيقي، لا على صعيد وقف الاستيطان، ولا على صعيد أفق الدولة الفلسطينية.

ومع ذلك، استمر الرهان الرسمي على وعود أمريكية متجددة، في وقت كانت فيه الوقائع على الأرض تؤكد انسداد الأفق وتآكل ما تبقى من حل الدولتين.

وعليه تبدو سياسات محمود عباس وكأنها تمثل تتويجاً لمسار طويل من تفريغ القرار الوطني المستقل من مضمونه، لا حدثاً طارئاً أو استثناءً عابراً. فبعد سنوات من خطاب فتحاوي مجيد عن “عدم التفريط بالقرار الفلسطيني”، جاءت الممارسات العملية لتؤكد العكس تماماً. لقد جرى استبدال الاستقلالية الوطنية بمنطق إدارة الأزمة، واستُبدلت الإرادة الشعبية بحسابات البقاء السياسي.

ويؤكد المراقبون أن قرارا بلا استقلال، وسلطة بلا سيادة، ونضال منزوع الأدوات، هي معادلة لا يمكن أن تنتج إلا مزيداً من التآكل الداخلي وفقدان الثقة الشعبية وخطر جسيم على المشروع الوطني الفلسطيني.

وربما الأخطر من كل ذلك، أن هذا المسار يُقدَّم اليوم بوصفه الخيار الوحيد الممكن، في محاولة لإغلاق باب البدائل، وكأن تقويض القرار الوطني المستقل قدر محتوم لا خيار سياسي قابل للنقاش والتغيير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى