معالجات اخبارية

ما دخل من مساعدات إلى غزة لا يكفي قطرة في بحر الاحتياج الإنساني

رغم الضغوط الدولية المكثفة والإعلانات الإسرائيلية الأخيرة عن إجراءات جديدة لتخفيف الكارثة الإنسانية في قطاع غزة، يؤكد خبراء الإغاثة والعاملون في المجال الإنساني أن ما تم إدخاله حتى الآن من مساعدات – جوًا وبرًا – لا يكفي قطرة في بحر الاحتياج الإنساني ولا يقترب حتى من الحد الأدنى المطلوب لمواجهة مجاعة تضرب أكثر من مليوني إنسان، معظمهم نساء وأطفال.

فمنذ أن أعلنت سلطات الاحتلال يوم الأحد الماضي عن “وقفات إنسانية يومية” وإسقاط جوي للمساعدات، بدا للوهلة الأولى أن ثمة تحولًا في النهج.

لكن الواقع الميداني وسلسلة العراقيل التي ما زالت تقف في وجه تدفق الإمدادات الإنسانية أظهرت بوضوح أن الأمر لا يعدو كونه واجهة إعلامية لكسب الوقت وتخفيف الضغط السياسي، دون تغيير جوهري في سياسة الحصار والتجويع.

شاحنات لا تكفي

بحسب ما نشرته هيئة الجمارك الإسرائيلية، فقد دخلت أكثر من 200 شاحنة مساعدات إلى قطاع غزة يوم الثلاثاء، وهو ما يعني معدلًا يناهز 70 شاحنة يوميًا منذ مايو/أيار الماضي.

لكن هذا الرقم يظل أقل بكثير من المعدل الذي كانت غزة تستقبله قبل اندلاع الحرب، وأقل بأضعاف من المطلوب حاليًا.

الأمم المتحدة كانت قد أكدت أن ما بين 500 إلى 600 شاحنة يوميًا هو الحد الأدنى اللازم لتلبية احتياجات سكان القطاع، في ظروف ما قبل المجاعة.

أما الآن، ومع تصاعد الأزمة إلى مستويات كارثية، يقول مسؤولون إن هذا الرقم لم يعد كافيًا، بل يجب مضاعفته – خصوصًا بعد انهيار سلاسل الإمداد المحلية، وتوقف الإنتاج الغذائي داخل غزة.

بشرى الخالدي، مسؤولة السياسات في منظمة أوكسفام، عبّرت بوضوح عن موقف المنظمات الإنسانية قائلة: “ما نحتاجه ليس إصلاحات جزئية ولا فتاتًا من الشاحنات. ما نحتاجه هو تحول جذري في السياسة. المجاعة لا تُعالج بـ 200 شاحنة ولا حتى بـ 300.”

مجاعة تتفاقم.. وجرائم مستمرة

بحسب وزارة الصحة في غزة، فإن أكثر من 150 شخصًا قضوا جوعًا منذ بداية الحرب، أكثر من نصفهم خلال الشهر الماضي وحده.

وخلال الأسبوع الجاري، قُتل عشرات الفلسطينيين أثناء انتظارهم الحصول على مساعدات غذائية، في جريمة جديدة تضاف إلى سلسلة المجازر التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية بحق المدنيين في طوابير الخبز والطعام.

ويقول الدكتور نور الدين العمصي من منظمة “مشروع الأمل” إن عيادته تستقبل يوميًا عشرات الأطفال الذين يعانون من سوء تغذية حاد.

ويضيف “نفدت لدينا مخزونات البسكويت العلاجي عالي الطاقة منذ أيام. لا نملك شيئًا لتقديمه للأطفال. نستقبل حالات ضعف حاد وهزال قاتل ولا نملك العلاج.”

تعقيد مقصود لإفشال الإغاثة

ما يزيد الوضع سوءًا هو وجود عراقيل بيروقراطية ضخمة تمنع دخول الإمدادات، خاصة عبر المنظمات غير الحكومية.

فقد اشترطت سلطات الاحتلال تسجيل أي منظمة غير تابعة للأمم المتحدة في سجلاتها، مع تقديم بيانات تفصيلية عن الموظفين الفلسطينيين العاملين لديها.

هذا الطلب أثار مخاوف كبيرة لدى منظمات الإغاثة، التي رفضت الامتثال خشية أن يؤدي ذلك إلى استهداف موظفيها أو تعريضهم للخطر، خاصة في ظل توثيق قتل أكثر من 200 عامل إغاثي منذ بداية الحرب، معظمهم في غارات إسرائيلية.

نتيجة لذلك، تم تأخير أو إيقاف إدخال مساعدات حيوية – بما فيها أدوية وأغذية جاهزة للأطفال – في الجمارك الإسرائيلية إلى أجل غير مسمى.

أحد مديري سلاسل التوريد في غزة صرّح بأن الجمارك الإسرائيلية لا تبرر قراراتها أبدًا، وأن المواد تُرفض بشكل تعسفي دون توضيح.

وأضاف: “لا نعرف ما المسموح به وما الممنوع. فجأة ترفض الشحنة لأن بها تمورًا أو زيتونًا أو فاصوليا، بحجة أنها تحتوي على بذور. هذه حيلة لمنع الزراعة الذاتية مستقبلًا.”

مسرحية المساعدات الجوية

اللفتة الأخرى التي روّجت لها دولة الاحتلال هي إسقاط المساعدات جوًا، إلا أن التقارير الميدانية أظهرت أنها أقرب إلى الاستعراض الدعائي منها إلى حل حقيقي.

فكميات المواد المسقطة جوًا لا تتجاوز بضع عشرات من الطرود يوميًا، غالبًا ما تسقط في أماكن غير مأهولة أو غير آمنة، ويصعب على السكان الوصول إليها.

وفي هذا السياق، قال أحد عمال الإغاثة: “إسقاط الطرود الغذائية على رؤوس المحاصرين من الجو هو إهانة لا إغاثة. إذا كان الاحتلال قادرًا على تسيير طائرات شحن، فلماذا لا يفتح المعابر البرية ويدخل مئات الشاحنات يوميًا؟”

سياسة تجويع ممنهجة

ما يجري في غزة – حسب تأكيدات منظمات حقوقية – ليس نتيجة تقصير لوجستي أو عراقيل مؤقتة، بل هو سياسة متعمدة تهدف إلى استخدام الغذاء كسلاح حرب.

وقد وصفت منظمة هيومن رايتس ووتش الوضع بأنه “تجويع ممنهج لسكان غزة”، فيما قالت منظمة العفو الدولية إن “(إسرائيل) تتلاعب بالمساعدات لتقويض الحق في الحياة والكرامة”.

حتى من داخل دولة الاحتلال، بدأت أصوات قليلة تنبه إلى أن استمرار هذه السياسة سيؤدي إلى عواقب دولية وخيمة، بعد أن باتت غزة تمثل نموذجًا واضحًا لانتهاك القانون الدولي الإنساني، لا سيما في قضية “الحرمان من الغذاء والرعاية الطبية كأسلحة ضد المدنيين”.

لا بديل عن وقف إطلاق النار ورفع الحصار

في ظل هذه الوقائع، يُجمع الخبراء والمنظمات الدولية على أن أي حديث عن “تحسينات” أو “ممرات إنسانية” ما هو إلا محاولة للالتفاف على الحل الحقيقي: وقف فوري لإطلاق النار، ورفع شامل للحصار، وإتاحة دخول المساعدات دون قيود.

فما دخل حتى الآن – سواء عبر الجو أو البر – لا يرقى إلى قطرة في بحر الاحتياج الهائل في قطاع غزة، ولا يعكس سوى محاولة للتلاعب بالرأي العام العالمي وصرف النظر عن جريمة التجويع الجماعي الجارية.

وبينما تستمر المجاعة، ويتزايد عدد الجثث الهزيلة التي تقضي جوعًا، لا يزال العالم يراقب.. بعضه غاضب، وبعضه متواطئ، لكن الأكيد أن ما يحدث في غزة – بصمت دولي – سيبقى وصمة في جبين الإنسانية، ما لم يُتخذ موقف حاسم وسريع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى