رفض الأردن استقبال جثمان معتصم رداد: نفاق المواقف الرسمية لعمان

في مشهد يعكس التناقض الصارخ بين الشعارات والمواقف العملية، رفضت السلطات الأردنية استقبال جثمان الشهيد والأسير المحرر معتصم رداد ليدفن في مقابر عائلته في الأردن، رغم كل النداءات الإنسانية والأوراق الرسمية المستوفاة.
هذه الحادثة لم تكن مجرد خطأ إداري أو سوء تقدير سياسي، بل هي تعبير فاضح عن حالة التواطؤ والصمت التي باتت تسم مواقف النظام الأردني في العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة، وتجاهل معاناة الشعب الفلسطيني.
الشهيد الممنوع من العودة
الشهيد معتصم رداد، القائد في سرايا القدس، وأحد رموز الحركة الأسيرة الفلسطينية، قضى حياته بين السجون والمواجهات مع الاحتلال الإسرائيلي.
وبعد صراع طويل مع المرض في الأسر، ارتقى شهيدًا ليُمنع حتى من حقه الأخير في أن يُوارى الثرى في وطنه الثاني بين أهله وذويه في الأردن.
هذا الرفض الأردني لم يكن مفاجئًا بالنظر إلى مسار السياسات الرسمية التي اختارت الانكفاء خلف ذرائع “إجرائية” جوفاء، تخفي تواطؤًا سياسيًا مفضوحًا.
ذرائع واهية… وخيانة لقيم إنسانية
تذرعت السلطات الأردنية بداية بـ”عدم اكتمال الأوراق الرسمية” كسبب لعدم استقبال الجثمان، رغم وصوله إلى مطار عمّان بالفعل. أعيد الجثمان إلى مصر بقرار سياسي صريح.
لاحقًا، وبعد استكمال الأوراق التي طلبتها الجهات الأردنية، جاء الرفض مجددًا، حتى لطلبات “الاسترحام الإنساني” التي قدمتها العائلة.
هذه ليست إجراءات روتينية عابرة، بل هي تعبير عن قرار سياسي مدروس بعدم تحمل أي كلفة سياسية من وراء استضافة جثمان مقاوم فلسطيني بارز.
بين ازدواجية الخطاب وعقدة “أمن النظام”
لطالما حاولت عمان رسم صورة لنفسها كمدافع عن القضية الفلسطينية، وهو ما يتجلى في تصريحات رسمية وإعلامية تكرر بشكل يومي عبارات “نصرة الشعب الفلسطيني” و”الوقوف في وجه العدوان”.
لكن الواقع يثبت أن هذه المواقف لا تتعدى حدود التصريحات الدعائية، بينما تدار السياسة الفعلية وفق حسابات باردة تتعلق بـ”أمن النظام” والعلاقة مع إسرائيل.
النظام الأردني يدرك أن معتصم رداد لم يكن مجرد اسم في قائمة الشهداء، بل هو رمز مقاوم، له تأثير رمزي وجماهيري في الداخل الفلسطيني، وأي احتفاء رسمي أو شعبي به قد يُفسر كـ”تصعيد سياسي” مع إسرائيل، وهو ما لا ترغب عمان في تحمله.
في ظل حرب غزة: الخذلان الأردني مستمر
تأتي هذه الحادثة في ذروة العدوان الإسرائيلي على غزة، حيث تتعرض المنطقة الجنوبية للقطاع لمجازر وتهجير قسري في رفح والنصيرات.
في هذا السياق الدموي، يواصل الأردن الرسمي سياسات إدارة الظهر للمقاومة الفلسطينية، مكتفيًا ببيانات دبلوماسية باردة، بينما يمتنع عن اتخاذ أي خطوات ميدانية حقيقية لدعم صمود الفلسطينيين.
رفض استقبال جثمان معتصم رداد يختصر هذا التوجه، ويعكس بوضوح أن الأولوية بالنسبة لعمان ليست فلسطين ولا غزة، بل الحفاظ على “قنوات التنسيق” مع الاحتلال والتوازنات الإقليمية.
ازدواجية فجّة في التعامل مع الشأن الفلسطيني
ما يزيد من فداحة هذا الموقف هو التناقض الواضح مع سلوكيات أخرى للنظام الأردني:
يستضيف الأردن مؤتمرات ومنتديات تُرفع فيها رايات القضية الفلسطينية كغطاء دعائي.
يحتفي الإعلام الرسمي الأردني بفعاليات رمزية لدعم القدس أو الأقصى.
لكن حين يتطلب الموقف خطوة عملية – كاستقبال جثمان مقاوم – يختفي كل هذا الخطاب فجأة.
هذه الازدواجية لم تعد تخفى على أحد، بل أصبحت جزءًا من نمط ثابت في سلوك عمان، حيث يتم استثمار القضية الفلسطينية داخليًا كورقة شعبية، دون أي التزام سياسي حقيقي بدفع أثمان في وجه الاحتلال.
ماذا تخشى عمان؟
يبدو أن القرار الأردني برفض استقبال جثمان رداد يعكس حسابات تتجاوز البعد الإنساني أو الرمزي:
الخوف من التصعيد مع دولة الاحتلال: أي احتفاء بمعتصم رداد قد يُفهم كدعم علني لخيار المقاومة، وهو ما لا ترغب عمان في تبنيه.
الضغوط الأميركية والخليجية: النظام الأردني بات أكثر ارتباطًا بالمحور السعودي الإماراتي في مواقفه، وهو محور يضغط لاحتواء أي خطاب مقاوم.
الخشية من تنامي التيارات الشعبية المعارضة: استقبال الجثمان كان سيفتح الباب أمام موجة تعاطف جماهيري تُحرج النظام داخليًا.
ارتدادات خطيرة على صورة الأردن
هذا التخاذل الأردني لا يمر بلا أثمان. فكل موقف من هذا النوع يضعف من صورة عمان كطرف “نزيه” في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
في وقت تتحرك فيه دول عربية أخرى – ولو بخطوات رمزية – لدعم غزة، يُصر الأردن الرسمي على البقاء في منطقة رمادية، تؤدي عمليًا إلى خدمة الرواية الإسرائيلية عن “حرب على الإرهاب” بدلًا من الانحياز لحق الشعب الفلسطيني في المقاومة والدفاع عن نفسه.
ورفض استقبال جثمان معتصم رداد ليس مجرد حادثة إنسانية مؤسفة، بل هو تعبير عن فشل استراتيجي في تحديد الأولويات.
النظام الأردني اختار مجددًا الاصطفاف مع معادلات “الحفاظ على الاستقرار بأي ثمن”، حتى لو كان هذا الثمن هو التنكر لواحد من أكثر الملفات ارتباطًا بالوجدان الشعبي الأردني: فلسطين والمقاومة.
وفي زمن يتعرض فيه قطاع غزة لمحاولة إبادة ممنهجة، يصبح الصمت خيانة، والتخاذل تواطؤًا.
الشهيد معتصم رداد، الذي أفنى عمره من أجل فلسطين، مُنع حتى من حقه الأخير في العودة إلى أهله ليدفن بكرامة.
وفي هذه الحادثة، تجلت كل تناقضات السياسة الأردنية: بين الشعارات المرفوعة، والمواقف الحقيقية التي تقف على النقيض تمامًا من إرادة الشعوب.