ابتذال إعلام السلطة وفتح: من خطاب وطني إلى بروباغندا الرواتب

تحوّل إعلام السلطة الفلسطينية الرسمي ومعه المنصات المرتبطة بحركة فتح منذ سنوات، إلى آلة دعائية خاوية وظيفتها الأساسية تمجيد القيادة السياسية والدفاع عن تنازلاتها المتكررة، حتى عندما تتعارض هذه التنازلات مع الثوابت الوطنية.
وقد بلغت هذه الظاهرة رغم المرحلة الحرجة التي يمر بها الشعب الفلسطيني حاليا مستوى من الابتذال، بحيث لم يعد الخطاب الإعلامي ينطلق من أي رؤية وطنية أو مشروع تحرري، بل من منطق المرتبات والامتيازات: الدفاع عن القيادة مقابل استمرار الرواتب.
ومن الملاحظ أن أجهزة الإعلام التابعة للسلطة أو الممولة من فتح تحولت إلى منابر متشابهة في مضمونها: خطابات تمجيد للرئيس، تضخيم لإنجازات وهمية، تبرير للخيانات السياسية، وتجاهل تام للمقاومة وصمود الشعب.
ويؤكد مختصون أن هذه الوسائل لا تُنتج خطابًا وطنيًا أو نقديًا، بل تسعى إلى إعادة إنتاج “شرعية زائفة” تقوم على الولاء الأعمى لا على الإنجازات.
وهذا الخطاب لا يخدم فقط القادة، بل يبرر للقاعدة التنظيمية أن موقفها المهادن أو الصامت هو الخيار “العقلاني”، وأن الدفاع عن القيادة ضرورة للحفاظ على الاستقرار، بينما الحقيقة أنه دفاع عن الامتيازات الفردية أكثر مما هو دفاع عن الوطن.
قاعدة فتح: من الطليعة الثورية إلى “موظفي الرواتب”
لطالما كانت حركة فتح في بداياتها رمزًا للثورة الفلسطينية المسلحة، ووعاءً جامعًا لتيارات وطنية متعددة. لكن مع مرور الوقت، وخاصة بعد اتفاق أوسلو، جرى تحويل القاعدة التنظيمية إلى شبكة موظفين مرتبطين برواتب السلطة ومؤسساتها.
وقد باتت المعادلة واضحة: الولاء للقيادة = راتب مضمون، وأي موقف نقدي أو رفض للتنازلات = تهديد بقطع الراتب أو فقدان الامتيازات.
بهذا الشكل، أصبحت القاعدة التنظيمية مكبلة اقتصاديًا، وتحوّل كثير من عناصرها إلى “مسحّجين” يمارسون التمجيد اليومي للسلطة وقياداتها، حتى عندما تتبنى هذه القيادة مواقف معادية للمقاومة وحقوق الشعب الفلسطيني.
ومن أخطر ما يعكس ابتذال إعلام السلطة وفتح هو طريقة التعامل مع الخطط الإسرائيلية العدوانية:
التنسيق الأمني يُقدَّم على أنه “حماية للمصالح الوطنية”، بينما هو عمليًا أداة لضبط المقاومة وقمعها.
التنازلات السياسية، مثل الاعتراف المتكرر بإسرائيل أو الالتزام بعدم دعم أسر الشهداء والأسرى، يُسوَّق لها كـ”مواقف عقلانية تحفظ الدعم الدولي”.
حتى الاعتداءات على غزة والضفة يتم التعاطي معها بخطاب بارد، يُلقي اللوم على المقاومة ويبرّئ الاحتلال.
ولا يتردد الإعلام المرتبط بالسلطة في شيطنة فصائل المقاومة أو وصفها بالمغامرة، بينما يتجاهل الجرائم اليومية للاحتلال. وهنا يظهر التماهي الكامل مع الخطاب الإسرائيلي – الأميركي، ولكن بلغة عربية فلسطينية “معلّبة”.
ثقافة “التسحيج” في السلطة وفتح
التسحيج، أي المديح الزائف والمبالغ فيه، أصبح ثقافة سياسية راسخة داخل حركة فتح والسلطة. الموظفون يعلمون أن بقاءهم في مواقعهم مرهون بإظهار الولاء في كل مناسبة عبر التصفيق للخطابات الفارغة في الأمم المتحدة والمؤامرات الدولية، وملء الشاشات ببرامج تمجيد للرئيس ومساعديه.
في مقابل ذلك يتم مهاجمة أي معارض أو صوت ناقد باعتباره “خارج الصف الوطني”.
بهذا الشكل، فقدت الساحة الفلسطينية إحدى أهم أدواتها: النقاش الداخلي الحر. لم يعد من الممكن مساءلة القيادة أو انتقاد خياراتها، لأن الإعلام والقاعدة التنظيمية تحولا إلى “حاجز صوت” يمنع أي نقد، ويحوّل كل خطأ إلى “إنجاز”.
وبحسب مراقبين فإن هذا الابتذال الإعلامي له آثار خطيرة:
تفريغ الخطاب الوطني: لم يعد الإعلام الرسمي صوتًا للحقوق الفلسطينية، بل أصبح أداة لتجميل سياسات الاستسلام.
إضعاف الروح الشعبية: حين يرى المواطن أن من يفترض أن يمثل القضية يبرر الاحتلال ويهاجم المقاومة، يفقد ثقته بالقيادة وبالمؤسسات.
تعميق الانقسام: الإعلام الفتحاوي/السلطوي يشيطن قوى المقاومة، ما يعمّق الانقسام الداخلي ويضعف وحدة الصف الفلسطيني.
تسويق الاحتلال دوليًا: حين يظهر إعلام فلسطيني رسمي يتبنى الرواية الإسرائيلية جزئيًا، فهذا يمنح تل أبيب أوراقًا إضافية أمام المجتمع الدولي.
فيما يبقى التحول الأكبر أن الإعلام الذي كان يُفترض أن يُعبّر عن شعب تحت الاحتلال صار إعلامًا وظيفيًا: لا يعمل لمصلحة الوطن، بل لمصلحة بقاء الرواتب والامتيازات. هنا يتحول الصحفي أو الموظف إلى “أجير سياسي”، وظيفته التطبيل للقيادة وتبرير خيانتها، حتى لو تعارض ذلك مع دماء الشهداء ومعاناة الأسرى.
إلا أن هذا النمط من الإعلام لا يمكن أن يستمر بلا تكلفة: فقدان الشرعية الشعبية، اتساع الهوة مع الشارع، وتعزيز قناعة متنامية بأن هذه السلطة وحركة فتح تحوّلتا إلى عبء على القضية بدل أن تكونا رافعة لها.