تحليلات واراء

أكذوبة “سد الذرائع” تتهاوى: السلطة كوكيل أمني لإسرائيل أمام ضم الضفة والانهيار

منذ سنوات ترفع قيادة السلطة الفلسطينية شعار “سد الذرائع” باعتباره نهجًا سياسيًا لتفادي التصعيد ووقف العدوان الإسرائيلي.

غير أن هذا الشعار، الذي رُوّج له كخيار واقعي لتجنيب الشعب المزيد من الدماء والخسائر، يتهاوى اليوم أمام حقائق ميدانية صارخة: ضم إسرائيلي وشيك للضفة الغربية، وتآكل مكانة السلطة الفلسطينية حتى حدود الانهيار.

فقد أثبتت التجربة أن “سد الذرائع” لم يكن سوى أكذوبة سياسية استُخدمت لتبرير التنازلات، وتحويل السلطة إلى نسخة كربونية من الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، تعمل كوكيل مخلص لحماية المستوطنين بدلًا من حماية الأرض والشعب.

من “سد الذرائع” إلى إدارة الاحتلال

يقوم جوهر خطاب “سد الذرائع” على فكرة أن ضبط الشارع الفلسطيني، وتجميد المقاومة المسلحة، والالتزام باتفاق أوسلو سيُضعف المبررات الإسرائيلية لممارسة العدوان، وسيكسب الفلسطينيين دعمًا دوليًا.

لكن الواقع جاء معاكسًا تمامًا: تصاعد الاستيطان بوتيرة غير مسبوقة، توسع مشاريع الضم القانوني والفعلي، وتواصل الاعتداءات اليومية على المدن والمخيمات.

وبدلاً من أن يُكبح العدوان، تحول “سد الذرائع” إلى منح الاحتلال هامشًا أكبر للتحرك بلا تكلفة. وباتت السلطة، عبر التنسيق الأمني، أشبه بجهاز إداري يسهّل لإسرائيل السيطرة، فيما تحولت الضفة إلى جغرافيا ممزقة ومعزولة.

السلطة كوكيل أمني

التحول الأخطر الذي أفرزه هذا النهج هو اختزال وظيفة السلطة الفلسطينية في البعد الأمني، بحيث باتت أولويتها حماية الاستقرار الأمني الإسرائيلي على حساب الأمن الوطني الفلسطيني.

في مدن مثل نابلس وجنين وطولكرم، تُقدَّم أولوية “ضبط السلاح” و”محاصرة المجموعات المسلحة” باعتبارها مصلحة للسلطة، لكنها في الحقيقة خدمة مباشرة للمستوطنين والجيش الإسرائيلي.

هذا الدور الأمني لم يعد سرًا؛ بل بات موثقًا في تصريحات مسؤولين إسرائيليين يعترفون بأن بقاء السلطة هو “حاجز أمني حيوي” يحمي المستوطنات من الانفجار الشعبي.

اليوم، ومع اقتراب لحظة الضم الإسرائيلي الرسمي للضفة الغربية، ينهار منطق “سد الذرائع” تمامًا. فالاحتلال لم يحتج إلى ذرائع لابتلاع الأرض، ولم يتوقف يومًا عن فرض الأمر الواقع بالقوة.

الخطاب الرسمي الذي كان يراهن على “حُسن النية” الدولية و”تجميل السلوك الفلسطيني” لم يوقف bulldozers الاستيطان، ولم يردع إسرائيل عن طرح مشاريع ضم واسعة تعلنها أحيانًا جهارًا.

الأدهى أن هذا النهج، بدلًا من أن يحصّن السلطة، جعلها عرضة للابتزاز والتهميش. ودولة الاحتلال نفسها تدفع اليوم نحو تفكيك السلطة أو تقليصها إلى مجرد إدارة خدماتية محلية، فيما تُهيئ المستوطنين للسيطرة الكاملة على الأرض.

تناقض صارخ مع الواقع

ما يجري يكشف التناقض الصارخ بين نهج “سد الذرائع” وبين الواقع:

الاحتلال لم يحتج يومًا إلى ذرائع لارتكاب جرائمه والسلطة، رغم التزامها الكامل بالاتفاقيات، لم تحصد سوى مزيد من العزلة والتهميش، فيما المجتمع الدولي الذي كان يُفترض أن يكافئ السلطة على “الانضباط”، تخلى عنها وتركها تواجه التآكل الذاتي.

وبذلك، يتضح أن السياسة التي بُنيت على “إدارة الأزمة” بدلًا من مواجهتها، لم تحمِ الفلسطينيين، بل عمّقت مأزقهم وشرعنت تغوّل الاحتلال.

بموازاة ذلك فإن الضغط الإسرائيلي المتواصل، إلى جانب التململ الشعبي الداخلي، يدفع السلطة إلى حافة الانهيار. الأجهزة الأمنية التي شُيدت لحماية “النظام” تواجه فقدان شرعيتها، والمؤسسات السياسية تعيش حالة جمود تام. وفي ظل هذه المعادلة، يُطرح سؤال جوهري: ما جدوى سلطة لا تحمي الأرض ولا تقدم أفقًا سياسيًا لشعبها؟.

هذا الانهيار، إذا وقع، لن يكون نتاج ضعف مالي أو إداري فقط، بل نتيجة طبيعية لمسار سياسي فقد كل معانيه. السلطة التي ارتضت أن تكون نسخة كربونية من الإدارة الإسرائيلية لا يمكنها أن تصمد أمام مشروع الضم الذي يلغي وجودها أصلًا.

ويشير المحلل السياسي من رام الله هاني المصري إلى أن خطوة منع واشنطن التأشيرات من عباس ومساعديه لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة تمثل تمهيداً عمليّاً نحو سحب الاعتراف الأميركي بالمنظّمة والسلطة.

ويشير المصري إلى أن ذلك يأتي بعدما سبقها في فترة رئاسة ترامب الأولى إغلاق مكتب منظّمة التحرير في واشنطن، ونقل السفارة الأميركية إلى القدس، وإغلاق القنصلية الأميركية فيها، ووقف الدعم المالي للسلطة باستثناء الأمن.

كما أنه منذ أكثر من عشر سنوات، لم تُعقد أي اجتماعات سياسية بين قيادة السلطة والحكومة الإسرائيلية، وكذلك نادرة هي الاجتماعات الأميركية الفلسطينية، والسلطة لم تعد “أمراً واقعاً” لا نقاش فيه؛ في ظل مواقف إسرائيلية ترى أنه لم تعد هناك حاجة إلى سلطة واحدة، بل سلطات إدارية محلية آهلة بالسكان، ومنفصلة بعضها عن بعض وتقام على مساحة 40% من الأرض المحتلة.

وبحسب المصري يجري ذلك كله رغم التنازلات الفلسطينية الكثيرة، التي وصلت إلى حد الاستمرار بالالتزام المجحف وعدم تطبيق قرارات المجلسين الوطني والمركزي منذ عام 2015، المطالبة بوقف الالتزامات المترتبة على “أوسلو” وسحب الاعتراف بإسرائيل.

وعليه فإن انكشاف أكذوبة “سد الذرائع” يفرض على الفلسطينيين وقواهم السياسية إعادة التفكير في خياراتهم. فالاحتلال ماضٍ في مشروعه التوسعي، ولا ينتظر “أخطاء فلسطينية” ليبرر عدوانه.

وبحسب المراقبين فإن البديل الواقعي هو إعادة بناء مشروع وطني تحرري يقوم على: استعادة الوحدة الداخلية وإنهاء الانقسام، وإعادة الاعتبار للمقاومة الشعبية بكافة أشكالها، وتدويل القضية بعيدًا عن رهانات التفاوض العقيم، وتحويل السلطة من وكيل أمني إلى أداة مقاومة وصمود.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى