“العربية” سلاح في الدعاية الإسرائيلية: افتراضات مسمومة تبرر الإبادة في غزة

تلعب قناة “العربية” الممولة سعوديا دوراً يتجاوز التغطية الإخبارية إلى تسويق افتراضات مسبقة تخدم آلة العدوان الإسرائيلي وتبرر حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ نحو عامين على قطاع غزة.
ويرى مراقبون أن هذه الافتراضات تُبنى داخل النص الإعلامي لتبدو مسلّمات لا تقبل الجدل، وبذلك تُسهم في إعادة إنتاج خطاب الاحتلال بلغة عربية، وبملامح “موضوعية” زائفة.
إذ أن عنوان على شاكلة: “استخبارات إسرائيل: حماس تعيد بناء أنفاقها” لا يُقدّم فقط خبرًا منسوبًا إلى “مصادر”، بل يُدخل افتراضًا مسبقًا مزدوجًا: بأن الاحتلال نجح بالفعل في تدمير شبكة الأنفاق وأن نشاط المقاومة اليوم هو مجرد إعادة بناء، لا تطوير أو استمرار لقدرات قائمة.
وبحسب المراقبين يكرس هذا النوع من الافتراضات رواية إسرائيلية عن “الإنجاز العسكري”، حتى ولو لم تقدّم تل أبيب دليلاً قاطعًا.
فالمتلقي يُساق ضمنيًا إلى قبول “نجاح” الاحتلال، ومن ثم النظر إلى أي نشاط للمقاومة كخطوة لاحقة في سلسلة من “الهزائم”. هنا تُحجب الحقيقة: أن الاحتلال عجز، عبر عشرات العمليات، عن القضاء على بنية المقاومة تحت الأرض.
إعلام دول التطبيع العربي
من بين أكثر الافتراضات خطورة ما يُبنى على صياغات مثل: “حماس تعترف بإسرائيل ضمنياً…”. هذا افتراض سابق على أي نقاش: أنه حدث اعتراف، أو أن تصريحات معينة تُؤول كاعتراف.
الحقيقة أن الحركة، منذ تأسيسها وحتى اليوم، لم تُقدّم اعترافاً بكيان الاحتلال. لكن العنوان يُعيد صياغة القصة وكأن الاعتراف حقيقة قائمة، وما يجري هو نقاش حول “شكل الاعتراف”.
هنا يظهر التواطؤ الخطير: تحويل كذبة دعائية إلى “إطار تفكير”، يدخل وعي القارئ فيُصبح أساساً لأي نقاش تالٍ، حتى دون أدلة. إنها تقنية بلاغية تستخدمها الدعاية لفرض واقع لغوي يصعب نفيه بعد ذلك.
عناوين أخرى تُدخل افتراضات مثل: “محمد السنوار أكثر تشدداً من يحيى”. الافتراض المسبق هنا أن القائدين كلاهما متشدد، وأن المطلوب هو المقارنة بين “درجات التشدد”.
بهذا يُحاكم الخطاب المقاوم ضمن قاموس الاحتلال وحلفائه، حيث “التشدد” و”الاعتدال” مفاهيم يُوزعها الإعلام وفق مقياس يخدم دولة الاحتلال.
المفارقة الساخرة أن الإعلام نفسه يصمت عن توصيف شخصيات مثل نتنياهو أو بن غفير، الذين يمارسون سياسات عنصرية وعدوانية، وكأنهم في خانة “الاعتدال”. إنها قسمة إعلامية جائرة تُجمّل القاتل وتشوّه صورة المقتول.
الافتراضات كأداة دعائية
يكشف التحليل النقدي للخطاب الإعلامي أن أخطر ما في هذه الصياغات ليس مضمونها المباشر، بل الافتراضات الكامنة التي تمرّ دون وعي القارئ.
إذ أن العناوين تُقدَّم بصيغة تقريرية محايدة، لكن في باطنها تُعيد إنتاج أساطير الاحتلال: النجاح العسكري، ضعف المقاومة، اعترافها الضمني، تشدد قادتها… إلخ.
المتلقي العادي قد يبتلع هذه الافتراضات دون مقاومة، لأنها لا تُعرض كآراء، بل كحقائق جاهزة. وهنا تكمن خطورة “العربية”: في قدرتها على تمرير الدعاية ضمن قالب “مهني” يوحي بالحياد.
وينسجم هذا الخطاب الإعلامي مع توجّه سياسي سعودي أوسع يسعى إلى إعادة ترتيب العلاقات الإقليمية على قاعدة التطبيع أو على الأقل تحييد الصراع.
من هنا فإن الدفاع عن الرواية الإسرائيلية لا يتم فقط بشكل مباشر، بل عبر تطبيع اللغة، أي جعل المصطلحات الدعائية للاحتلال جزءاً من السردية اليومية في الإعلام العربي.
كما أن هذا الاصطفاف لا يكتفي بترك الفلسطينيين وحدهم في مواجهة الإبادة، بل يشارك فعلياً في تغطية الجرائم عبر إخفاء الفاعل وتحويل الجريمة إلى “تقديرات استخباراتية” أو “تصريحات رسمية” لا تقبل التشكيك.
وحين تتحول قناة عربية إلى منصة لتسويق رواية الاحتلال، فإنها تفقد صفتها الإعلامية وتتحول إلى أداة دعائية. الأخطر أن ذلك يُعمّق فجوة الثقة بين الجمهور ووسائل الإعلام، ويُسهم في إنتاج حالة من الضبابية المقصودة، حيث تختلط الحقيقة بالدعاية فلا يعرف المتلقي أين يقف.
إنها خيانة مهنية وأخلاقية مزدوجة: تجاه الضحايا الذين تُمحى دماؤهم من السردية، وتجاه الجمهور العربي الذي يُخدع بمسلمات زائفة.
وبالمحصلة فإن قناة “العربية” تتطوع لتكون لساناً لرواية إسرائيلية في لحظة إبادة جماعية. والمواجهة لا تكون فقط في الميدان، بل في اللغة أيضاً، لأن الحرب تبدأ من الكلمة وتنتهي عند الدم.