الاعتراف بالدولة … وهمٌ في زمن الإبادة الجماعية

بقلم المحامي الدكتور عصام عابدين
1. الوهم السياسي وسط الإبادة الجماعية
الفلسطينيون لا يُقتلون بالرصاص والقنابل فحسب، بل يُقتلون أيضاً بالوهم السياسي والتضليل الدبلوماسي. فبينما يواجه الناس في غزة والضفة إبادة جماعية وتهجيراً قسرياً، يطل علينا خطاب رسمي فلسطيني وأوروبي استعماري، يُروّج أن “الاعتراف بالدولة” يمثل نقطة تحوّل مفصلية! أي استخفاف بعقول الناس ودماء آلاف الأبرياء الذين يُسحقون تحت الركام منذ عامين؟
2. مهرجانات الاعترافات وحرب الطواحين
منذ عام 1974، حين اعترفت الجمعية العامة بالأمم المتحدة بمنظمة التحرير ومنحتها صفة مراقب دائم، مروراً بعام 1988 حين أعلن المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر قيام دولة فلسطين، وصولاً إلى عام 2012 حين اعترفت الجمعية العامة بفلسطين كدولة مراقب غير عضو بتصويت (138) دولة دون أي دولة أوروبية وازنة، ونحن اليوم في عام 2025 نُقاد من جديد إلى مهرجان الاعترافات مع إعلان بريطانيا وأستراليا وكندا، ليُسوَّق كأنه فتح مبين، فيما الواقع لم يتغير قيد أنملة: الاحتلال يتمدد، الاستيطان يتعاظم، التهجير القسري يتواصل، والإبادة الجماعية المستمرة منذ عامين تتصاعد. إنها حرب طواحين الهواء التي تذر الرماد في العيون، وتُخفي العجز الكامل والفشل المتراكم، وتبيع الوهم للناس بدل مواجهة الحقيقة.
3. موناكو عضو كامل … وفلسطين أسيرة الوهم
المقارنة تكشف العجز والخديعة: موناكو، التي لا تتجاوز مساحتها كيلومترين مربعين، عضو كامل العضوية في الأمم المتحدة، بينما فلسطين، بكل تاريخها ودمائها وتضحياتها، ما زالت رهينة الوهم. فالقضية لم تكن يوماً في عدد الاعترافات، بل في غياب الإرادة وأدوات الردع القادرة على كسر الحماية الأمريكية لإسرائيل، وإنهاء هذا الاحتلال الاستعماري غير الشرعي بكل ما يتيحه القانون الدولي من أدوات ونضال مشروع يُجسّد حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير.
4. الأولوية الحقيقية: الصمود والمساءلة
الأولوية اليوم ليست في إضافة أسماء دول جديدة إلى قائمة الاعترافات الشكلية، بل في تعزيز صمود الناس على أرضهم وفي وطنهم، ووقف الإبادة الجماعية فوراً، وتفعيل أدوات القانون الدولي: العقوبات، المقاطعة، تعميق العزلة الدولية، وقف التطبيع، تنفيذ مذكرات التوقيف الدولية، ودعم الحق في مقاومة الاحتلال الاستعماري المكفول في القانون الدولي وقواعده الآمرة. وما عدا ذلك ليس سوى هراء سياسي لتسكين الغضب الشعبي العالمي، والتغطية على العجز والتواطؤ الرسمي فلسطينياً وعربياً وأوروبياً.
5. غسل العار بالتواطؤ الدولي
قد يحمل الاعتراف الدولي قيمة رمزية، لكنه يُستغل بوقاحة لغسل العار الأبدي للصمت والتواطؤ في جرائم إبادة جماعية حصدت حتى الآن 10% من سكان غزة بين قتيل وجريح ومحو لمقومات الحياة، إبادة لا مثيل لها منذ الحرب العالمية الثانية بحسب خبراء الأمم المتحدة. ما قيمة هذه الاعترافات إن لم تتحول إلى حماية فورية للشعب الفلسطيني، وحدة وطنية حقيقية، وترتيب للبيت الداخلي، عدالة اجتماعية، واقتصاد صمود ومقاومة مهما اشتدت الأزمات المالية، وحرب على الفساد وتجار الحروب، وعقوبات جدية وفعّالة في مواجهة الاحتلال الاستعماري ونظام الأبارتهايد بدل الاكتفاء بالتلويح بها بعد عامين من الإبادة الجماعية لتبرير غسل وصمة العار.
وختاماً،
ما نحتاجه ليس مزيداً من الأوهام والمهرجانات السياسية والاستخفاف بعقول الناس، بل استراتيجية مواجهة حقيقية تربط بين الدم النازف على الأرض وأدوات القانون الدولي والمقاومة المشروعة وحق تقرير المصير للفلسطينيين غير القابل للتصرف. فالاعتراف بلا وحدة وطنية ومساءلة جدّية لن يوقف الإبادة الجماعية ولن يمنع التهجير، بل سيبقى مجرد ورقة خديعة في أرشيف التضليل.