غضب متصاعد في قواعد فتح بسبب تخليها عن الأسرى

تعيش حركة “فتح” واحدة من أكثر مراحلها توتّرًا وانقسامًا منذ سنوات، بعد تصاعد الغضب في قواعد الحركة التنظيمية في الضفة الغربية وقطاع غزة، بسبب ما اعتبره كثير من الكوادر “تخليًا مخزيًا” عن قياداتها الأسرى في سجون الاحتلال، وفي مقدمتهم القيادي مروان البرغوثي.
فبينما تجري مفاوضات تبادل الأسرى بين حركة حماس ودولة الاحتلال بوساطة قطرية ومصرية، تتّهم قواعد فتح قيادتها العليا بـ”التحريض الخفي” ضد إدراج أسماء من الحركة ضمن قوائم التبادل، خشية من عودة بعضهم إلى الواجهة السياسية وتهديد نفوذ القيادة الحالية.
أزمة ثقة تتفجّر من جنين
الشرارة التي فجّرت هذه الأزمة جاءت من مدينة جنين التي تُعد واحدة من أبرز معاقل حركة فتح التاريخية، حين أعلنت الأكاديمية والقيادية الفتحاوية الدكتورة سناء زكارنة استقالتها النهائية من الحركة، احتجاجًا على ما وصفته بـ”تخلّي فتح عن أسراها في سجون الاحتلال”.
وكتبت زكارنة، في بيان نشرته عبر صفحتها على “فيسبوك”، رسالة موجّهة إلى قيادة الحركة جاء فيها: “لقد كانت فتح يومًا رمزًا نعتز بالانتماء إليه، لكنها اليوم تخلّت عن عدد من أبنائها وقياداتها الأسرى، وتجاهلت معاناتهم، بل وقطعت رواتب بعضهم دون موقف واضح أو تحرّك مسؤول للدفاع عنهم، وهذا هو الخذلان بعينه.”
وأعلنت زكارنة أنها لم تعد تمثل الحركة ولا تنتمي إليها تنظيميًا، مؤكدة أن “انتماءها بعد اليوم سيكون وطنيًا خالصًا لفلسطين وقضيتها، بعيدًا عن أي فصائلية”.
وختمت رسالتها بعبارة لافتة: “سنبقى ندافع عنك يا أبا القسام (مروان البرغوثي) في كل الميادين ما حيينا.”
واستقالة زكارنة لم تكن مجرد موقف فردي، بل تعكس غضبًا متراكمًا داخل قواعد فتح، خاصة بين جيل الشباب والكوادر الميدانية في الضفة الغربية الذين يرون أن قيادة الحركة، المتمركزة حول الرئيس محمود عباس، فقدت بوصلتها الوطنية، وأصبحت تتحرك وفق مصالح ضيقة مرتبطة بمراكز النفوذ السياسي والأمني.
وتؤكد مصادر من داخل فتح أن عدداً من أعضاء الأقاليم في نابلس وطولكرم وجنين هدّدوا بتجميد عضويتهم إذا استمرّ التجاهل الرسمي لقضية الأسرى الفتحاويين في المفاوضات الجارية، خصوصًا مع استمرار احتجاز القياديين البارزين مروان البرغوثي وأحمد سعدات، اللذين يرفض الاحتلال الإفراج عنهما رغم المطالب الشعبية الفلسطينية المتكررة.
ويرى مراقبون أن صمت قيادة فتح إزاء هذه القضية الحساسة، بل وتلميحات بعض المقربين من الرئاسة إلى أن “إطلاق سراح البرغوثي قد يخلق إرباكًا سياسيًا داخل الحركة”، يعكس حجم الانقسام الداخلي والقلق من صعود شخصيات تحظى بشرعية نضالية وشعبية واسعة قد تهدد موقع القيادة الحالية.
مروان البرغوثي ويكيبيديا
يُعتبر مروان البرغوثي أحد أبرز رموز الحركة الأسيرة في فلسطين، وأحد مؤسسي الجناح الميداني لحركة فتح “كتائب شهداء الأقصى” خلال الانتفاضة الثانية. ويقضي حاليًا حكمًا بالسجن المؤبد لخمس مرات في السجون الإسرائيلية.
ورغم الإجماع الشعبي على ضرورة إدراجه في أي صفقة تبادل قادمة واستماتة حركة حماس في المطالبة بذلك في كل مراحل المفاوضات مع الاحتلال، فإن القيادة الحالية لفتح تُتهم ضمنيًا بعرقلة الإفراج عنه خشية من أن يعود لاعبًا سياسيًا مؤثرًا على المشهد الفلسطيني، خاصة بعد فشل الرئيس عباس في تحقيق أي تقدم سياسي أو جماهيري منذ انتخابه قبل نحو عقدين.
وتشير تسريبات من بعض الدوائر السياسية في رام الله إلى أن مكتب الرئيس أرسل رسائل غير رسمية إلى الوسطاء مفادها أن “إدراج البرغوثي في الصفقة سيخلق إشكالات داخلية معقدة”، وهو ما فُهم كإشارة واضحة على أن السلطة لا ترحب بإطلاقه في هذا التوقيت.
غضب القواعد وتآكل الشرعية
تعكس هذه التطورات عمق الأزمة البنيوية داخل حركة فتح، التي تعاني منذ سنوات من ترهل تنظيمي وتآكل في الشرعية الداخلية.
ففي الوقت الذي ما زالت فيه القواعد الشعبية تنظر إلى “فتح” بوصفها حركة الثورة الأولى، يرون أن قيادتها الحالية باتت رهينة التنسيق الأمني والمصالح الخاصة.
ويقول أحد كوادر الحركة في طولكرم، فضّل عدم ذكر اسمه: “لم تعد فتح تلك الحركة التي تحمي أبناءها. من يقبعون في السجون اليوم هم الذين رفعوا اسمها، بينما يعيش قادتها في الفنادق ويحسبون خطواتهم وفق ما يرضي الاحتلال والإدارة الأميركية”.
وأضاف أن ما جرى مع مروان البرغوثي “أوصل رسالة قاسية لكل مناضل فتحاوي: أنك وحدك في الميدان، وأن القيادة تراك عبئًا لا مكسبًا”.
ويشير مراقبون إلى أن الغضب المتصاعد داخل قواعد فتح لا يقتصر على ملف الأسرى فحسب، بل هو انعكاس لأزمة أعمق تتعلق بالهوية والدور. فالحركة التي قادت المشروع الوطني الفلسطيني لعقود، باتت اليوم عاجزة عن تحديد موقعها بين السلطة والشعب، بين التنسيق والمقاومة، بين الخطاب الوطني والمصالح الخاصة.
ويبرز هؤلاء تخلي حركة فتح عن رموزها التاريخية في السجون يكشف تحوّلها إلى جهاز بيروقراطي يفتقر إلى البعد الثوري الذي ميّزها في بداياتها.
ففي حين تحوّلت حركة حماس إلى العنوان الأبرز للصمود والمقاومة، تراجع خطاب فتح إلى لغة إصلاحية باردة تتحدث عن “السلام والحوكمة” بينما يُعاني مناضلوها خلف القضبان.
ويرى المراقبون أن استمرار هذا النهج سيؤدي إلى تفكك القواعد التنظيمية للحركة وتآكل رصيدها الشعبي، خصوصًا في المخيمات والمدن التي شكلت تاريخيًا معاقلها الأساسية.
وإذا لم تُبادر قيادة فتح إلى مراجعة مواقفها وإعادة بناء ثقة قواعدها، فإن موجة الاستقالات التي بدأت من جنين قد تتحول إلى حراك داخلي واسع يعيد رسم خريطة الحركة من الداخل.