تخبط السلطة في السياسات المالية والنقدية يدفع الضفة إلى المجهول

في مشهدٍ لم تعهده الضفة الغربية من قبل، تعيش الأسواق الفلسطينية حالة من الاضطراب النقدي الخطير تعكس عمق أزمة الإدارة المالية في مؤسسات السلطة.
فمن دوّار المنارة وسط رام الله — القلب التجاري والسياسي للضفة — إلى أصغر بلدات الشمال والجنوب، تتعدد أسعار الصرف وتتآكل الثقة في النظام المالي الرسمي، في ظل غياب واضح لتنسيق السياسة النقدية وغياب الشفافية عن آليات إدارة السيولة.
وفي مساحة لا تتجاوز عشرين مترًا في مركز رام الله، يمكن ملاحظة ثلاثة أسعار مختلفة لصرف الدولار مقابل الشيكل:
الأدنى في البنوك، حيث تلتزم المؤسسات المصرفية بسعر رسمي متدنٍ تحدده سلطة النقد.
المتوسط في محلات الصرافة المرخصة، التي تحاول الموازنة بين العرض والطلب دون مجازفة.
الأعلى لدى الصرافين المتجولين في الشوارع، الذين يستغلون الطلب المرتفع وشح السيولة ليحققوا أرباحًا سريعة.
والملاحظ أن الهوة بين السعرين الأدنى والأعلى تصل أحيانًا إلى أكثر من 5%، وهي فجوة غير طبيعية في سوق صغير ومحدود كالسوق الفلسطيني. هذا التعدد في الأسعار يرمز إلى فقدان السيطرة على الدورة النقدية وغياب آليات فعالة لضبط السوق أو مراقبة الصرافين غير المرخصين.
شحّ الدولار والدينار… وانهيار الثقة
يشهد السوق الفلسطيني حاليًا شحًا حادًا في العملات الأجنبية، ولا سيما الدولار والدينار الأردني، ما جعل الصرافين يتهافتون على الشراء ويرفضون البيع إلا بكميات محدودة جدًا — لا تتجاوز 100 أو 200 دولار في أفضل الأحوال — وبأسعار مرتفعة تفوق المنطقي.
ويرى محللون ماليون أن هذه الظاهرة تعكس أزمة ثقة حقيقية، إذ يحتفظ المواطنون بما لديهم من عملات صعبة كملاذ آمن، في ظل تآكل قيمة الشيكل وتقلبات أسعار الصرف مع غياب سياسات استباقية من سلطة النقد أو وزارة المالية.
ومن مظاهر الأزمة المتفاقمة، انتشار ظاهرة حاملي ماكينات الدفع الإلكتروني الذين يقفون بجانب الصرافات الآلية عند نزول الرواتب. هؤلاء يعرضون على الموظفين سحب مبالغهم عبر البطاقة البنكية مباشرة، لتجاوز قيود سقف السحب النقدي التي فرضتها البنوك بسبب نقص السيولة.
ويبرز مراقبون أن هذه الممارسة التي كانت استثناءً قبل أشهر باتت ظاهرة يومية، ما ينذر بتطور غير صحي في العلاقة بين الجهاز المصرفي والجمهور، ويفتح الباب أمام ممارسات غير قانونية وعمولات خفية قد تتفاقم لاحقًا.
فشل في إدارة النقد والسيولة
تخبط السلطة الفلسطينية بين سقف سياسي مقيد وسياسات مالية مرتجلة أنتج بيئة اقتصادية غير متوازنة. فسلطة النقد الفلسطينية — التي لا تملك عملة وطنية ولا سياسة نقدية مستقلة — تكتفي بإجراءات محدودة، بينما تواصل وزارة المالية ضخ الرواتب والالتزامات دون رؤية واضحة لتغطية العجز أو تنظيم السوق.
تراجع إيرادات المقاصة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وتأخر الدعم الخارجي، وتوسع النفقات التشغيلية، كلها عوامل دفعت الحكومة إلى الاقتراض المفرط من البنوك المحلية، ما زاد الضغط على السيولة المتاحة ورفع كلفة التمويل في السوق.
نحو سوق سوداء… الأخطر في تاريخ الضفة
يشير مراقبون اقتصاديون إلى أن استمرار هذا النهج سيقود حتمًا إلى تكوّن سوق سوداء شاملة للعملات والتحويلات، شبيهة بتجارب دول عانت من انهيار نقدي، مثل لبنان في السنوات الأخيرة.
وفي حال اتسعت الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق، سيتحول التعامل بالشيكل إلى عبء، وسترتفع الأسعار، وتتضرر القدرة الشرائية للمواطن، مما يهدد الاستقرار الاجتماعي في بيئة تعاني أصلًا من البطالة وغلاء المعيشة.
وتبدو السلطة الفلسطينية اليوم أسيرة سياسة ردّ الفعل: إجراءات آنية لمواجهة أزمات متكررة دون استراتيجية واضحة. فبدل أن تعمل على تنويع مصادر الدخل أو تطوير أدوات مالية وطنية، اكتفت بالرهان على قروض قصيرة الأجل ومعالجات مؤقتة، ما جعل الاقتصاد الفلسطيني عرضة للتقلبات اليومية.
النتيجة: فقدان الثقة بالنظام المالي الرسمي، وتنامي اقتصاد الظل الذي يعمل خارج رقابة المؤسسات. وإذا استمرت هذه الديناميكية، فإن الضفة الغربية تتجه نحو مرحلة غير مسبوقة من الفوضى النقدية، قد تكون مقدمة لانهيار جزئي في منظومة البنوك والعلاقات المالية الداخلية.
وفي غياب تدخل حاسم يعيد الانضباط للسوق، ويمنح المواطنين ثقة بسلامة مؤسساتهم المالية، ستبقى عبارة أحد الصرافين في رام الله تلخص المشهد بأكمله: “لم نعد نعرف من يضع السعر، ولا من يملك القرار… السوق يسير وحده إلى المجهول.”





