ثبات أهالي غزة يضع إسرائيل في مأزق رغم معادلة الترهيب والقصف والتدمير

تكثف دولة الاحتلال الإسرائيلي من مساعي فرض معادلة الترهيب والقصف المكثف والتدمير الشامل كوسيلة لإجبار سكان مدينة غزة وشمالها على النزوح والتهجير القسري وذلك في مواجهة الثبات والصمود الشعبي الرافض للإخلاء.
ويجمع مراقبون على أن ثبات سكان غزة أمام القصف والإنذارات الجماعية يشكل اليوم أكبر عقبة أمام الاحتلال الإسرائيلي الساعي لتدمير مدينة غزة وفرض تهجير شامل بحيث يجد نفسه محاصرا بمأزق استراتيجي: لا هو قادر على فرض السيطرة الكاملة بالقوة، ولا على كسر إرادة المدنيين.
آخر تجليات هذه السياسة ظهر في الإنذار غير المسبوق الذي أصدره جيش الاحتلال، الثلاثاء، والذي طالب فيه سكان مدينة غزة بالكامل بمغادرتها باتجاه منطقة المواصي جنوب القطاع.
وقد شكل هذا الإعلان العلني عن خطة الإبادة والاحتلال الكامل للمدينة لحظة فارقة، إلا أن ثبات أهالي غزة وصمودهم في وجه التهديدات أوقع إسرائيل في مأزق استراتيجي وأخلاقي.
الإنذارات كأداة حرب نفسية
اعتمدت دولة الاحتلال في الأيام الأخيرة على التصعيد العسكري المتزامن مع الإنذارات الجماعية، مستخدمة طائراتها ومنشوراتها الورقية والبيانات الإلكترونية لفرض حالة من الرعب والارتباك.
فقد دعا الناطق باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي ومنسق عمليات الاحتلال سكان غزة من المدينة القديمة وحي التفاح شرقاً وحتى البحر غرباً لمغادرة منازلهم نحو “المواصي”.
لكن هذا الأسلوب يكشف عن عجز عسكري واضح. فإسرائيل، التي لم تتمكن بعد نحو عامين من الحرب من تحقيق أهدافها بإخضاع المقاومة أو تفكيكها، تلجأ إلى الضغط على المدنيين أملاً في كسر إرادتهم، في محاولة لفرض معادلة سياسية بالقوة الغاشمة.
في المقابل يعرف الفلسطينيون جيداً معنى النزوح القسري. فقد عاش أهالي غزة تجربة النكبة الأولى عام 1948، وكرر الاحتلال منذ ذلك الحين سياسة التهجير والتطهير العرقي.
وخلال الحرب الحالية، رُوّج لمناطق مثل خان يونس أو رفح أو المواصي باعتبارها “مناطق إنسانية آمنة”، لكنها تحولت سريعاً إلى مسرح لمجازر جماعية عبر القصف الجوي والبري.
من هنا يأتي ثبات سكان غزة ورفضهم النزوح، فالتجربة التاريخية علمتهم أن مغادرة بيوتهم ليست ضماناً للحياة، بل قد تكون مدخلاً لفقدان الأرض والكرامة. هذا الوعي الجمعي جعل خيار البقاء رغم المخاطر أكثر إصراراً من أي وقت مضى.
حرب الإبادة على غزة ويكيبيديا
تزامناً مع الإنذارات، صعّدت دولة الاحتلال من عملياتها العسكرية في أحياء مكتظة بالسكان، مثل حي الشيخ رضوان، الذي شهد خلال الساعات الأخيرة قصفاً جوياً مكثفاً على منازله وتجمعاته السكانية.
كما لجأت قوات الاحتلال إلى النسف الممنهج للأبراج السكنية والعمارات عبر استخدام الروبوتات المتفجرة، خصوصاً في محيط “بركة الشيخ رضوان” وأطرافها الشرقية والجنوبية.
وبحسب مراقبين يهدف هذا التصعيد إلى خلق فراغ عمراني كامل يسهّل السيطرة على المدينة، لكنه في الوقت ذاته يعكس مأزق الاحتلال. فالتدمير الشامل لا يضمن تحقيق السيطرة، بل يفاقم عزيمة السكان على التمسك بالبقاء، ويرفع منسوب الغضب الشعبي ضد الاحتلال.
وفي مواجهة هذا الثبات الشعبي، تحاول دولة الاحتلال توصيف الصراع بأنه “حرب أدمغة” مع المقاومة.
فبينما تراهن على الضغط النفسي والتهديدات، تراهن المقاومة على إرادة السكان وصمودهم باعتبارهما الدرع الأول في مواجهة الاحتلال.
وقد تحولت هذه المعركة غير المتكافئة إلى اختبار لإسرائيل التي فشلت حتى الآن في فرض روايتها على الواقع، رغم استخدامها كل أدوات القمع والدمار.
وتدرك المقاومة أن الجبهة الداخلية الشعبية هي عماد قوتها، لذا تصر على رفض أي حلول جزئية أو تهجير جماعي، متمسكة بمطالبها الأساسية: وقف العدوان والانسحاب الكامل من القطاع. وهذا التمسك يحظى بقبول واسع لدى السكان الذين يعتبرون الصمود بحد ذاته شكلاً من أشكال المقاومة.
مأزق إسرائيل الاستراتيجي
ما يضع دولة الاحتلال في مأزق اليوم ليس فقط الفشل في تحقيق أهدافها العسكرية، بل أيضاً فشلها في تفكيك التماسك الاجتماعي الفلسطيني. فبدلاً من أن تؤدي التهديدات والإنذارات إلى انهيار الروح المعنوية، أنتجت حالة من الإصرار الجماعي على البقاء.
إضافة إلى ذلك، فإن مشاهد النزوح الجماعي ـ لو تحققت ـ ستشكل كارثة إنسانية جديدة قد تزيد الضغوط الدولية على دولة الاحتلال، التي تواجه بالفعل اتهامات متصاعدة بارتكاب جرائم إبادة جماعية وتهجير قسري. وبذلك، فإن أي خطوة إضافية نحو تفريغ غزة من سكانها ستفاقم مأزقها السياسي أمام المجتمع الدولي.
وإن ثبات أهالي غزة ورفضهم الاستسلام أو مغادرة منازلهم هو في جوهره رسالة سياسية بليغة: الشعب الفلسطيني لن يقبل إعادة إنتاج النكبة، ولن يسمح بتحويل غزة إلى منطقة منزوعة من سكانها لصالح مشاريع الاحتلال.
وهذا الصمود يفرض على الاحتلال معادلة معاكسة: فبدلاً من أن يحقق التهجير أهدافه، يتحول إلى عبء استراتيجي يعمّق مأزق إسرائيل، داخلياً وخارجياً. كما يعزز مكانة المقاومة ويظهرها بوصفها ممثلاً شرعياً لإرادة الناس، في مواجهة آلة عسكرية عاجزة عن فرض الاستسلام.