مصر تحرك مرتزقتها الإعلاميين للدعاية لدورها المتعثر بالمفاوضات بشأن غزة

في خضم التعثر المتواصل لجهود الوساطة المصرية بشأن التوصل إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة، عمدت أجهزة الأمن المصرية إلى تحريك مرتزقتها الإعلاميين للدعاية لدور القاهرة المتعثر في المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار في غزة.
وشهدت وسائل الإعلام المصرية الرسمية وشبه الرسمية إلى جانب مواقع التواصل الاجتماعي، حملة منسقة بدا أنها جاءت بتوجيهات من أجهزة الدولة العليا، تهدف إلى تلميع صورة القاهرة وإبراز دورها كمحور إقليمي لا غنى عنه في “جهود إحلال السلام”.
غير أن توقيت هذه الحملة، ومضمونها المكرر، لا يخفيان حقيقة تراجع الدور المصري وتخاذله المستمر أمام آلة الحرب الإسرائيلية، بل يكشفان محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من نفوذ إقليمي عبر بوابة غزة، لا أكثر.
توجيهات فوقية وتحريك إعلاميي الصف الأول
خلال الأيام الماضية، دفع النظام المصري بكبار الإعلاميين المعروفين بقربهم من الأجهزة الأمنية والمرتزقة التابعين له في الساحة الإعلامية الفلسطينية للحديث بكثافة عن “الجهود المصرية” في الوساطة، متجنبين الإشارة إلى الإخفاقات المتكررة في دفع الاحتلال الإسرائيلي نحو أي تنازل ملموس.
وقد لوحظ اتساق الرسائل الإعلامية التي صدرت عبر القنوات الفضائية الكبرى والصحف الحكومية، ما يدل بوضوح على وجود توجيهات فوقية لتحريك “مرتزقة الإعلام” الذين طالما استخدمهم النظام لترويج سردياته الداخلية والخارجية.
وتركز الحملة على تلميع صورة المخابرات العامة المصرية، بوصفها “الجهة الأنجع” في التواصل مع جميع الأطراف، بما في ذلك الفصائل الفلسطينية وتل أبيب وواشنطن، لكنها أغفلت عن عمد أن المفاوضات التي أدارتها القاهرة على مدار أكثر من عام ونصف انتهت إلى طريق مسدود، بينما كانت دولة الاحتلال تمضي قدمًا في عدوانها الممنهج، متجاهلة تمامًا “الدور المصري”.
من تعثر الوساطة إلى حملة علاقات عامة
منذ بداية الحرب على غزة في أكتوبر الماضي، تبنت مصر دور الوسيط بين دولة الاحتلال والمقاومة الفلسطينية، لكن أداؤها اتسم منذ البداية بالانحياز الفج لصالح الاحتلال، لا سيما عبر الضغط السياسي والأمني على المقاومة.
ومع اتساع الهوة بين النتائج على الأرض والدعاية الرسمية، لجأت القاهرة مؤخرًا إلى شن حملة إعلامية تحاول تصوير نفسها كقوة إقليمية لا غنى عنها، بينما تتصاعد الانتقادات داخل وخارج فلسطين لدورها الملتبس.
وتظهر التحركات الإعلامية الأخيرة وكأنها محاولة استباقية لتبييض الدور المصري في ضوء إخفاق المفاوضات، وتبرئة القاهرة من مسؤولية استمرار العدوان، في وقت تكشفت فيه أدوار إقليمية بديلة (مثل قطر وتركيا) باتت تحظى بثقة الفصائل الفلسطينية أكثر من الوسيط المصري، الذي يضغط في اتجاه واحد فقط: المقاومة.
دور متآكل ونفوذ على المحك
ليس جديدًا أن تسعى مصر لاستخدام الملف الفلسطيني لإعادة تثبيت نفوذها الإقليمي.
لكن هذه المرة، تجد نفسها في موقع هشّ، إذ لم تعد حماس تثق بوساطتها، ولم يعد الاحتلال يولي جهودها أي اعتبار، بينما تتسع دائرة الانتقادات الشعبية والحقوقية لدورها في استمرار الحصار على غزة، سواء عبر الإغلاق شبه الكامل لمعبر رفح أو عبر القيود المشددة على دخول المساعدات.
ورغم إعلان مصر أنها فتحت المعبر مرارًا، فإن التقارير الميدانية تشير إلى استمرار تعطيل دخول الوقود والإمدادات، لأسباب تتعلق أحيانًا بتنسيقها الأمني مع الاحتلال، وأحيانًا أخرى بالضغوط الأميركية. وبذلك، تحولت القاهرة عمليًا إلى بوابة إضافية من بوابات الحصار، وإن ادعت غير ذلك في خطابها الإعلامي.
مقاومة تحت الضغط… واحتلال في أمان
في الوقت الذي ترفض فيه القاهرة استخدام أوراق ضغط فعلية على الاحتلال — كوقف التنسيق الأمني أو التهديد بتجميد اتفاقيات التطبيع — تواصل الضغط على فصائل المقاومة الفلسطينية من أجل قبول مقترحات لا تلبي الحد الأدنى من مطالب الشعب الفلسطيني، بما فيها وقف العدوان وعودة النازحين وضمان الإغاثة الإنسانية.
وتروج وسائل الإعلام المصرية لفكرة أن “المقاومة تماطل”، بينما تتجنب الخوض في تفاصيل المذابح الإسرائيلية المستمرة.
هذا الانحياز الفاضح جعل الدور المصري في نظر كثيرين أقرب إلى دور “الوسيط الضاغط على طرف واحد”، وهو ما أفقد القاهرة صدقيتها لدى قطاعات واسعة من الفلسطينيين، خصوصًا في قطاع غزة، حيث يُنظر إلى مصر باعتبارها شريكًا غير مباشر في الحصار الممتد منذ سنوات، والذي تصاعدت وتيرته مؤخرًا ليشمل سياسة التجويع المنظمة.
غزة بوابة النفوذ… ولكن إلى أين؟
كل ذلك يشير إلى أن الدعاية الإعلامية الأخيرة ليست سوى محاولة لترميم صورة متآكلة، وللحفاظ على دور إقليمي مهدد بالضمور، خاصة في ظل تصاعد أدوار أخرى في المنطقة.
ولا يزال النظام المصري يرى في ملف غزة وسيلة لإعادة إنتاج شرعيته الإقليمية، سواء أمام الولايات المتحدة أو في المنتديات العربية، لكنه لا يقدم على الأرض ما يثبت صدقية هذا الطموح.
فالقاهرة لا تزال ترفض اتخاذ مواقف جذرية تُلزم إسرائيل بشروط وقف إطلاق النار، كما أنها تستمر في تسويق نفسها كـ”الوسيط المقبول من الجميع”، بينما واقع الميدان يكشف عن استبعادها التدريجي من بعض مراحل التفاوض، لصالح أطراف باتت أكثر فاعلية، سواء بسبب موقعها التفاوضي أو قدرتها على التواصل غير المشروط مع المقاومة.
ويجمع مراقبون على أن التحرك المصري الأخير على الساحة الإعلامية ليس سوى محاولة لتغطية فشل سياسي مزدوج: فشل في إجبار الاحتلال على الانصياع للحلول، وفشل في إقناع الفلسطينيين بصدقية وساطتها.
وبينما تواصل القاهرة تقمص دور الوسيط الإقليمي الكبير، تغض الطرف عن مسؤولياتها الأخلاقية والسياسية في كسر الحصار ووقف العدوان، وتكتفي بترديد خطاب مشوه يخلط بين التواطؤ والحياد، وبين الدعاية والعمل الحقيقي.
ومع استمرار الحرب وتدهور الوضع الإنساني في غزة، سيكون من الصعب إقناع أي طرف بأن القاهرة ما زالت تملك أوراق التأثير، ما لم تغير جذريًا سلوكها على الأرض، وتتوقف عن تحريك أبواقها الإعلامية لترويج رواية لا يصدقها أحد.