تحليل: مستقبل قاتم لإسرائيل يُنذر بتفاقم عزلتها على الساحة العالمية

تشهد دولة الاحتلال الإسرائيلي تحولاتٍ عميقة في موقعها داخل النظام الدولي، لم تعد تلك “الدولة المدللة” التي تحظى بإجماع سياسي وأخلاقي في الغرب، بل أصبحت عبئًا استراتيجيًا يتزايد ثِقله يومًا بعد يوم.
وتكشف الانقسامات داخل الولايات المتحدة – الحليف التاريخي والداعم الأكبر لإسرائيل –عن مستقبل قاتم للدولة العبرية، يُنذر بانكماش نفوذها وتفاقم عزلتها على الساحة العالمية.
فعلى مدى عقدين تقريبًا، تحوّل مركز ثقل الدعم الأميركي لإسرائيل من الحزب الديمقراطي إلى الحزب الجمهوري، نتيجة تحولات فكرية واجتماعية عميقة داخل القاعدة الديمقراطية التي باتت أكثر تعاطفًا مع الفلسطينيين وأكثر انتقادًا للسياسات الإسرائيلية، خصوصًا مع توالي الحروب الدموية على غزة والانتهاكات في الضفة الغربية.
اليوم، تُظهر استطلاعات الرأي أن غالبية الديمقراطيين يرون في إسرائيل قوة احتلال وعنصر زعزعة للاستقرار، فيما يُحمّلونها مسؤولية عرقلة السلام. هذا التحول لا يعني فقط تراجع “العاطفة الأخلاقية” تجاه إسرائيل، بل يهدد أساس التحالف التاريخي الذي قام على الدعم غير المشروط.
في المقابل، لجأت دولة الاحتلال إلى الاحتماء باليمين الأميركي، وتحديدًا بالقاعدة الإنجيلية داخل الحزب الجمهوري، التي تؤمن – بدوافع دينية مسيانية – بأن قيام دولة الاحتلال شرطٌ لعودة المسيح ونشوب معركة “هرمجدون”.
لكن هذا التحالف “الوظيفي” هشّ بطبيعته، لأنه لا يستند إلى قناعة سياسية أو إنسانية بدعم تل أبيب، بل إلى سردية دينية ترى أن نهاية الزمان ستشهد إبادة أغلبية اليهود واعتناق الباقين للمسيحية. أي أن هذا التحالف يحمل في جوهره بذور زواله.
الأخطر أن هذا الجدار بدأ يتصدّع من الداخل، إذ أن حركة “ماغا” (MAGA)، التي قادت عودة اليمين الشعبوي بقيادة دونالد ترامب، تشهد اليوم انقسامات متزايدة حول العلاقة مع تل أبيب.
فقد كان دعم الحركة لإسرائيل شبه مطلق في الماضي، لكن العدوان المتواصل على غزة واتساع نطاق الحرب إلى الإقليم أثارا موجة غضب داخل القاعدة الجمهورية نفسها، التي ترفع شعار “أميركا أولاً”.
وقد باتت هذه القاعدة ترى أن التحالف الأميركي – الإسرائيلي يُثقل كاهل الولايات المتحدة ماليًا وسياسيًا، ويدفعها إلى حروبٍ لا تخصها، فيما يعاني الأميركيون من أزمات داخلية خانقة.
تجلّى هذا التحول في مواقف شخصيات بارزة داخل “ماغا” مثل مارجوري تايلور غرين، وتاكر كارلسون، وستيف بانون، الذين دعوا علنًا إلى إعادة النظر في الدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل.
وهؤلاء لا يتحركون بدافع التعاطف مع الفلسطينيين، بل انطلاقًا من قناعة بأن واشنطن باتت “أسيرة” لأجندة إسرائيلية لا تخدم المصالح القومية الأميركية.
وقد وصل الانقسام إلى حد أن خصوم دولة الاحتلال داخل “ماغا” أطلقوا على أنصارها في الحزب الجمهوري اسم “MIGA” (Make Israel Great Again)، في إشارة ساخرة إلى أنهم يضعون تل أبيب قبل الولايات المتحدة.
سلاح معاداة السامية
في مواجهة هذا الانقسام، لجأ اللوبي الصهيوني الأميركي إلى سلاحه التقليدي: اتهام المعارضين بـ “معاداة السامية”. لكن هذه الورقة التي نجحت لعقود في إسكات الأصوات الناقدة، بدأت تفقد فاعليتها أمام يمين أميركي يعتبر نفسه الحارس الحقيقي للقيم المسيحية والوطنية. لم تعد تهمة “العداء للسامية” قادرة على إخراس سياسيين يمينيين يتحدثون باسم القاعدة الشعبية الواسعة.
ويمثل ذلك سابقة خطيرة بالنسبة لإسرائيل، لأنها تفتح الباب أمام انزياحٍ تدريجي في موقف الحزب الجمهوري، ما يعني أن تل أبيب قد تجد نفسها بعد سنوات قليلة بلا قاعدة أميركية صلبة كما كانت لعقود.
على الصعيد الدولي، تتسارع مؤشرات العزلة الإسرائيلية. فبعد حرب غزة المدمّرة، شهدت الأمم المتحدة ومؤسسات العدالة الدولية تحولات غير مسبوقة في الخطاب تجاه دولة الاحتلال.
إذ باتت تواجَه بلغة “الجرائم ضد الإنسانية” و”الإبادة الجماعية”، بينما تتقلّص دوائر التعاطف معها في أوروبا الغربية، التي كانت لعقود الملاذ الدبلوماسي الثاني بعد واشنطن. بل إن بعض البرلمانات الأوروبية باتت تبحث في فرض قيود على تصدير الأسلحة لإسرائيل.
كما أن صعود قوى الجنوب العالمي – مثل الصين وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا – يغيّر ميزان القوى العالمي. هذه الدول لا ترى في إسرائيل إلا أداةً للهيمنة الغربية ومصدر اضطراب في الشرق الأوسط، ولذلك تتبنى مواقف أكثر جرأة في إدانتها.
وقد كشفت دعوى جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية بشأن الإبادة في غزة عن حجم التحوّل العالمي ضد تل أبيب، إذ لم تعد تُعامل كـ “استثناء أخلاقي”، بل كدولة يجب محاسبتها كغيرها.
أما في الداخل الإسرائيلي، فالأزمة السياسية العميقة والاحتجاجات المتصاعدة ضد حكومة نتنياهو، والانقسامات بين اليمين المتطرف والعلمانيين، تُضعف تماسك الدولة وتُفقدها القدرة على تقديم نفسها كـ “ديمقراطية مستقرة”.
وكلما استمرت حربها على غزة، تآكلت صورتها الأخلاقية، واتسعت الفجوة بينها وبين الرأي العام العالمي، خصوصًا لدى الأجيال الشابة في الغرب التي ترى في فلسطين رمزًا للنضال ضد العنصرية والاحتلال.
وعليه لم تعد دولة الاحتلال قادرة على تكرار معادلة “الأمن مقابل الصمت الدولي”. إنها تخسر اليسار الليبرالي في الغرب، وتواجه تصدعات داخل يمينها الأميركي، فيما يتجه الجنوب العالمي نحو عزلها سياسيًا وأخلاقيًا. هذه ليست مجرد أزمة علاقات عامة، بل تحوّل بنيوي في مكانة تل أبيب داخل النظام الدولي.
ومع تراجع نفوذها، ستزداد احتمالات أن تجد نفسها، لأول مرة منذ قيامها، بلا مظلة حامية في واشنطن ولا تعاطف في أوروبا، وحينها ستدرك أن الحروب لا تُكسب بالحديد والنار فقط، بل بالشرعية التي خسرتها إلى الأبد.





