تحليلات واراء

تطبيع مخزٍ على حساب الدم الفلسطيني: النظام السوري يفتح أبوابه لإسرائيل

في مشهد يصعب وصفه إلا بالخيانة العلنية، تتكشف تباعًا تفاصيل الاتصالات المباشرة بين النظام السوري الجديد ودولة الاحتلال الإسرائيلي، في خطوة تشكّل ذروة الانحدار السياسي والأخلاقي الذي بلغته نخبة دمشق الحاكمة بعد الإطاحة ببشار الأسد.

خمس مصادر مطلعة أكدت لوكالة رويترز أن محادثات أمنية وجهاً لوجه جرت مؤخرًا بين ممثلين عن الحكومة السورية الجديدة ومسؤولين إسرائيليين، هدفها الظاهري “تهدئة التوترات على الحدود”، لكن حقيقتها أبعد من ذلك بكثير: إنها التأسيس لحقبة من التطبيع المجاني والتنازلات الإستراتيجية التي تُقدَّم للاحتلال الإسرائيلي على طبق من دماء الفلسطينيين والسوريين على السواء.

من المقاومة إلى الاستسلام السياسي

منذ أكثر من نصف قرن، شكّلت سوريا – رغم سياساتها المتخبطة وتحالفاتها الإقليمية المتناقضة – جزءًا من محور رافض للاعتراف بإسرائيل، ولو شكليًا.

لم توقّع دمشق على اتفاقية سلام، ولم ترفع العلم الإسرائيلي في سماء عاصمتها، ولم ترسل مسؤولًا واحدًا إلى تل أبيب. أما اليوم، وبعد سقوط الأسد وتشكيل حكومة جديدة برعاية خليجية وغربية، ها هي دمشق تبدأ من بوابة “التنسيق الأمني” مع دولة الاحتلال، تكرارًا بائسًا لتجارب فلسطينية وعربية سابقة في التطبيع بدأت كلها بمحادثات سرية وانتهت إلى انهيارات وطنية مدوية.

فما الفارق الجوهري بين لقاءات مسؤولي السلطة الفلسطينية مع ضباط “الشاباك” في المقاطعة برام الله، ولقاء أحمد الدالاتي – المسؤول الأمني السوري البارز – مع نظرائه الإسرائيليين في مناطق حدودية، بعضها داخل الأراضي المحتلة؟.

الواقع أن كلاهما يُبرر بحجج “التهدئة” و”تجنّب التصعيد”، بينما يفتح الباب أمام تحالفات أمنية تُغلف بلغة الواقعية السياسية وتؤدي إلى تذويب القضية الفلسطينية، وإسكات صوت المقاومة الحقيقي.

هدية مجانية لإسرائيل في لحظة مجازر

ما يزيد هذا الانحدار السوري قبحًا هو توقيته. فبينما ترتكب دولة الاحتلال جرائم إبادة جماعية موثّقة في قطاع غزة، وتشنّ حملات تهجير وتطهير عرقي في الضفة الغربية والقدس المحتلة، وتواصل حصارها على مئات آلاف السوريين في الجولان المحتل، تقرر “دمشق الجديدة” أن تفتح خط اتصال مباشر مع الجناة.

وبذلك تبدو دمشق وكأنها غير معنية بما يحدث لفلسطين أو ما حدث لسوريا ذاتها في العقد الماضي من تدمير منهجي على يد طائرات إسرائيلية شنت مئات الغارات على أراضيها.

أي منطق سياسي أو أخلاقي يبرر مفاوضات مع الاحتلال، بينما لا تزال صور أشلاء الأطفال في غزة تتصدر شاشات العالم؟.

وكيف يمكن لنظام يزعم أنه يمثل شعبه، أن يمدّ يده إلى دولة تحتل جزءًا من أراضيه (الجولان) وتُجهز على ما تبقى من وحدة الأمة العربية؟ هذا ليس سلامًا ولا حتى تهدئة.

وبحسب مراقبين فإن هذا تواطؤ كامل الأركان مع المشروع الصهيوني، تنفذه نخبة تسعى لإعادة تدوير نفسها دوليًا على حساب المبادئ والدماء.

واشنطن شريك مباشر في سيناريو التطبيع

من اللافت أن هذه الاتصالات جاءت بتشجيع أميركي مباشر، وهو ما تجلّى في اللقاء الأخير الذي جمع الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس السوري الجديد أحمد الشرع في الرياض.

واشنطن، التي امتنعت لسنوات عن التعاطي مع سوريا ما بعد الثورة، قررت أخيرًا فتح الأبواب للنظام الجديد بشرط واحد: الانخراط في “محادثات السلام” مع دولة الاحتلال.

هذه ليست سوى صفقة سياسية مفضوحة، يتم من خلالها إضفاء الشرعية على سلطة جديدة في دمشق مقابل منح دولة الاحتلال طوق نجاة استراتيجي، يضمن لها حدودًا آمنة، ويُنهي عمليًا أي إمكانية لعودة الجولان أو دعم المقاومة. إنها نسخة معدّلة من اتفاقيات أبراهام، لكن هذه المرة تأتي من قلب ما يفترض أنه “الخندق الأخير” للممانعة.

تسويق الاعتدال عبر القمع

سوريا الجديدة لا تكتفي بالاتصال مع دولة الاحتلال، بل تمضي قدمًا في تقديم “شهادات حسن سلوك” للإدارة الأميركية ولتل أبيب، عبر خطوات رمزية تحمل دلالات عميقة.

فقد سلمت دمشق مقتنيات الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، واعتقلت قياديين في حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، وأرسلت رسالة رسمية إلى واشنطن تقول فيها: “لن نسمح لسوريا بأن تكون مصدر تهديد لأي طرف، بما في ذلك إسرائيل”.

هذا التحول يُذكّرنا بدور الإمارات في أعقاب تطبيعها العلني مع دولة الاحتلال عام 2020، حين شنت حملة اعتقالات ضد أي صوت رافض للتطبيع، وبدأت الترويج لنفسها كوسيط “سلام” في المنطقة، بينما كانت تموّل انقلابات ومليشيات مسلحة في أكثر من ساحة عربية.

النظام السوري الجديد يسير على هذا الدرب بحذافيره: قمع داخلي، تودد خارجي، وتنازل عن الحقوق الوطنية باسم الواقعية.

لا سلام مع محتل

لا يمكن لأي محادثات مع الاحتلال الإسرائيلي أن تُفهم خارج سياق التنازل المجاني. فإسرائيل لا تعطي شيئًا دون مقابل. وإن كانت اليوم تفرمل غاراتها الجوية مؤقتًا، فذلك لا يعني أنها تخلّت عن مشروعها لفرض الهيمنة العسكرية والتوسعية في كل من سوريا ولبنان وفلسطين.

بل إن ما يجري حاليًا هو ترسيخ لمعادلة جديدة، تصبح بموجبها دمشق حليفًا غير مباشر في هندسة ما يُسمى “الشرق الأوسط الجديد”، عبر بوابة أمن الجولان وتهدئة الجنوب.

أما الحديث عن “سلام سلبي” أو “تفاهمات مؤقتة” فهو ذر للرماد في العيون. السلام الحقيقي لا يُبنى مع من يقتل الأطفال في غزة، ولا مع من يحتل أراضي الغير بالقوة. وأي خطوة سورية في هذا الاتجاه لا يمكن اعتبارها سوى تطبيعًا فاضحًا ومجانيًا مع الاحتلال، ترفضه الشعوب الحرة، ولن يُكتب له القبول أو الشرعية مهما تفنن منظّرو الواقعية في تزيينه.

لا شرعية لمن يساوم على فلسطين

إن ما يجري اليوم من تواصل مباشر بين النظام السوري الجديد وإسرائيل هو انقلاب على ثوابت القضية الفلسطينية، وطعنة في ظهر كل مقاوم سوري أو فلسطيني أو عربي رفض الركوع للمحتل.

لن تُقبل أعذار التهدئة، ولا حجج الأمن، ولا مبررات الواقعية. فالتطبيع، سواء جاء من أبو ظبي أو من دمشق، يبقى تطبيعًا مشينًا، لن يُسقط حق العودة، ولن يُنهي احتلال الجولان، ولن يُطفئ نار الغضب الشعبي الذي يعرف تمامًا معنى الولاء لفلسطين.

النظام الذي يضع يده في يد العدو، لا يحق له أن يتحدث عن السيادة، ولا عن الكرامة، ولا حتى عن الدولة. إنه نظام يسقط قبل أن يستقر، ويُسجل على نفسه أول خيانة سياسية موثّقة في سجلات ما بعد الثورة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى