السلطة الفلسطينية شريكة جرائم وعدوان الاحتلال

من بين أخطر ما يواجه القضية الفلسطينية اليوم، ليس فقط آلة الحرب الإسرائيلية التي تفتك بالأرض والإنسان، بل في ذلك الشريك الصامت أو الفاعل في كثير من الأحيان؛ الذي يمضي في نزع الشرعية عن المقاومة وتحميلها مسؤولية جرائم الاحتلال، وهو السلطة الفلسطينية ذاتها، التي بات دورها أكثر التصاقًا بمتطلبات الأمن الإسرائيلي من ارتباطه بمشروع التحرير الوطني.
والأنكى من ذلك، أن مشروع هذه السلطة – ومنذ توقيع اتفاق أوسلو – تمحور حول تمكين الاحتلال من إدارة مشروعه الاستيطاني دون كلفة، وبمنطق “سحب الذرائع” منه، حتى لو كلّف الأمر تفريغ القضية من مضمونها المقاوم، وتجريم من يرفض الانصياع لواقع الإذعان.
ذرائع الاحتلال… ومهمة “سحب الذرائع”
تتكرّر باستمرار مقولة “المقاومة تعطي الذرائع للاحتلال”، ويُبنى على أساسها خطاب سياسي وإعلامي يطالب المقاومة بـ”التعقّل”، و”التوقف عن منح إسرائيل المبررات لعدوانها”.
هذا الخطاب يتجاهل حقيقة أن الاحتلال لا يحتاج إلى ذرائع لقتل الفلسطينيين أو تدمير بيوتهم، بل ينطلق من مشروع إحلالي توسعي، يعتبر الوجود الفلسطيني أصلًا عقبة يجب إزالتها.
لذلك، فإنّ المطالبة بسحب الذرائع من الاحتلال ليست سوى وصفة للاستسلام، ولتجريد الفلسطيني من أيّ أداة للدفاع عن وجوده، حتى لا يبقى له لاحقًا من “الذريعة” سوى أنفاسه.
في هذا الإطار، تتصدّر السلطة الفلسطينية هذا النهج، سواء بالقول أو بالفعل، فهي الجهة التي لا تتوانى عن تحميل المقاومة مسؤولية الإبادة الجماعية والدمار، في كل محفل ممكن.
الرئيس محمود عباس، خلال كلمته في القمة العربية الأخيرة، لم يتجاوز الثلاث دقائق، ومع ذلك حرص فيها على اتهام المقاومة بتوريط الفلسطينيين في عدوان الاحتلال، مع أن الحقيقة الدامغة هي أن الاحتلال لا ينتظر مبررًا لعدوانه، ولا يتوقف عن جريمته بغضّ النظر عن السياق.
أما على الأرض، فواصلت أجهزة السلطة قمعها للمقاومة، وشنّت حملة أمنية على مخيم جنين أواخر عام 2024 تحت عنوان “حماية وطن”، والتي مهّدت مباشرة لعملية عسكرية إسرائيلية بعد أيام فقط، في مشهد من التكامل الأمني الصريح.
السلطة رأس حربة في الهجوم على المقاومة
لا يتوقف الأمر عند التنسيق الأمني أو اعتقال المطاردين وسحب الذرائع، بل يمتد إلى المستوى الرمزي واللغوي، حيث يجري تصوير المقاومة باعتبارها “مدمّرة للوطن”، في مقابل سلطة تقدم نفسها كـ”حامية للوطن”، رغم أنها عاجزة عن حماية قرية من المستوطنين.
هذا التشويه اللفظي يُكمل الدور السياسي للسلطة، ويؤسس في الوعي الجمعي لمعنى مقلوب: أن المحتل ليس هو المجرم، بل من يقاومه.
ومن هنا، إن كانت السلطة تطالب بمحاسبة المقاومة على أفعالها، أفلا يحق لنا المطالبة بمحاسبة السلطة على كل الكوارث التي لحقت بالشعب الفلسطيني بسبب خياراتها السياسية؟ أفلا يستحق مشروع أوسلو، الذي أُبرم خارج أي تفويض شعبي، أن يُحاكم على ما جرّ من تنازلات خطيرة؟.
ويبر مراقبون أن الذهاب لاتفاق أوسلو لم يكن قرارًا جماعيًا، بل اتخذته قيادة ضيقة من حركة فتح، خلف ظهر المفاوض الفلسطيني في واشنطن، ودون إشراك الشعب أو استفتائه. لم يكن اتفاقًا يُحرّر، بل أداة لإعادة تعريف فلسطين، وتفكيك الهوية الوطنية الجامعة، واستبعاد اللاجئين وفلسطينيي الداخل من المعادلة السياسية الجديدة.
منظّمة التحرير، بوصفها الممثّل الشرعي، استخدمت هذا التفويض لتوقيع اتفاق يتنازل عن الحقوق، بدلًا من التمسك بها، وقاد إلى تأسيس سلطة وظيفية تُعنى بإدارة السكان تحت الاحتلال لا بمقاومته.
ومع تسلّم عباس للسلطة، تحوّلت هذه المؤسسة تدريجيًا إلى شركة خاصة، يديرها طاقم محدود من المستفيدين، ويتعامل مع القضية الفلسطينية بعقلية المقاول من الباطن.
من أوسلو إلى رام الله: الشركة الخاصة المحدودة
خلال العقدين الماضيين، ضربت السلطة بنية المجتمع الفلسطيني، ففرضت عليه نمطًا اقتصاديًا استهلاكيًا خاضعًا للمنظومة الإسرائيلية، وأجهضت أي مظاهر للعمل الوطني الفاعل.
وتحولت حركة فتح إلى ذراع للسلطة، تنخرط في صراعاتها الداخلية على الامتيازات والمناصب، بدلًا من أن تكون رافعة للنضال الفلسطيني. وحين يتعرّض الشعب للإبادة في غزّة، تستمر الحياة الاعتيادية في رام الله تحت رعاية السلطة، التي لا ترى في مشهد المجازر ما يستدعي وقفة وطنية جامعة، بل تواصل الاحتفال بمهرجاناتها كما لو كانت في بلد طبيعي، لا في وطن محتل.
قامت السلطة كذلك بتفكيك ما تبقى من مؤسسات وطنية جامعة، وفي مقدمتها منظمة التحرير، واحتكرت القرار السياسي، وضيّقت على الفصائل، وسحبت صلاحيات المجلس التشريعي، وألغت الانتخابات، واحتكرت النقابات والبلديات، وتعاملت مع كل قوى المعارضة باعتبارها تهديدًا لسلطتها.
ضرب المجتمع الفلسطيني وتشويه المقاومة
لم يكن الانقسام الفلسطيني الداخلي قدرًا مفروضًا، بل نتيجة مباشرة لهذه السياسات الإقصائية. والأسوأ، أن محاولات المصالحة تحطمت مرارًا على شرط عباس بتجريد المقاومة من سلاحها والاعتراف باتفاق أوسلو، وهي شروط إسرائيلية بامتياز، تتبناها السلطة في زيّ “الشرعية الدولية”.
حتى في قطاع غزة، مارست السلطة سياسات عقابية، من قطع الرواتب إلى تعطيل المشاريع، إلى التضييق السياسي، رغم إدراكها أن ضحايا هذه الإجراءات هم أبناء الشعب الفلسطيني نفسه، لا “الخصم السياسي” فحسب.
واليوم، مع الحرب المفتوحة على غزّة، ومع مشروع التهجير القسري، لم تتبدّل أولويات السلطة، ولم تخرج من خطابها العدائي تجاه المقاومة، بل انخرطت في حملة الدعاية الإسرائيلية، ومنحت الاحتلال ذريعة تقول للعالم إن الفلسطينيين منقسمون، وإن جزءًا منهم يدين المقاومة، ويشارك في شيطنتها.
والمأساة الأوضح أنّ هذه السلطة، بدل أن تبادر لتوحيد الصف الفلسطيني، وتنظيم الجهود في مواجهة الكارثة الوطنية، تنشغل حاليًا بتقسيم المناصب، والإعداد لما بعد عباس، وكأنها سلطة مستقرة في كيان سيادي، لا في شعب يواجه خطر الإبادة والتشريد الجماعي.
في النتيجة، لا مبالغة في القول إن السلطة الفلسطينية، بمواقفها وممارساتها، لم تعد مجرد كيان عاجز أو مأزوم، بل تحوّلت إلى جزء من منظومة السيطرة الإسرائيلية، تكمّلها وظيفيًا وسياسيًا.
وإن كنا نقبل محاسبة المقاومة على جرائم الاحتلال كما تريد السلطة، فإن العدل والاتساق يقتضيان محاسبتها أيضًا على كل دونم مصادَر، وكل بيت في مستوطنة، وكل شهيد سقط نتيجة التنسيق الأمني، لأن مشروعها – في جوهره – لم يكن يومًا للتحرير، بل لترسيخ الاحتلال وشرعنته.