تحليلات واراء

إبراهيم أبراش: مثقف السلطة في خدمة الاحتلال

في المشهد السياسي الفلسطيني، لا تغيب بعض الشخصيات عن لعب أدوار مريبة تحت عباءة الثقافة والسياسة، مقدّمة خطابًا “عقلانيًا” ظاهريًا، لكنه يخدم بوضوح مسارًا وظيفيًا يتماهى مع متطلبات الاحتلال الإسرائيلي. من بين هؤلاء، يبرز إبراهيم أبراش، وزير الثقافة الأسبق في السلطة الفلسطينية، كنموذج لخطاب التسوية المهزوم، والانخراط الكامل في مشروع تصفية القضية الفلسطينية من بوابة الهجوم على المقاومة.

من النشأة الأكاديمية إلى الحظيرة السياسية

ولد إبراهيم أبراش عام 1951 في مدينة غزة، ونشأ في ظل الاحتلال الإسرائيلي المباشر، وهي تجربة كان يُفترض أن تُنتج موقفًا رافضًا للاستعمار.

لكنه اختار مسارًا أكاديميًا وفكريًا لم يوظفه لخدمة قضايا التحرر، بل لجعل “العقلانية” جسراً إلى الاستسلام. درس في المغرب وحصل على شهادة الدكتوراه في القانون العام والعلاقات الدولية، ثم عاد إلى قطاع غزة حيث عمل أستاذًا في جامعة الأزهر، وتخصص في العلوم السياسية.

رغم حضوره الأكاديمي، لم يكن أبراش يومًا جزءًا من تيار فكري مقاوم أو حتى نقدي. بل كان منذ بداياته منحازًا إلى الرؤية الرسمية للسلطة الفلسطينية، ومتماهيًا مع منطق “الدولة تحت الاحتلال” الذي يقلب المفاهيم ويحوّل المشروع الوطني إلى إدارة ذاتية تحت سيادة الاحتلال.

من الثقافة إلى الوصاية السياسية

في عام 2007، كلّف أبراش بحقيبة وزارة الثقافة في حكومة تسيير الأعمال برئاسة سلام فياض، في أعقاب الانقسام الفلسطيني وسيطرة حركة حماس على قطاع غزة.

وتولي أبراش هذا المنصب لم يكن عارضًا، بل جاء كجزء من هندسة سياسية هدفت إلى تكريس مشروع “السلطة بلا مقاومة”، وإعادة صياغة الخطاب الثقافي ليكون متماهياً مع الشروط الأمنية والسياسية للاحتلال.

وخلال فترة وجوده في الوزارة، لم يُعرف لأبراش أي جهد ثقافي مقاوم، بل ركّز على إبراز ما يسميه “ثقافة التسوية والاعتدال”، في انسجام تام مع خطاب أوسلو.

الهجوم المتواصل على فصائل المقاومة

مع تصاعد العدوان الإسرائيلي على غزة، خاصة بعد معركة “سيف القدس” ثم “طوفان الأقصى”، كثّف أبراش من تحريضه العلني ضد فصائل المقاومة، وفي مقدمتها حركة حماس والجهاد الإسلامي.

ولم يتردد في تحميل الفصائل الفلسطينية مسؤولية الدمار الذي تخلفه آلة الحرب الإسرائيلية، وذهب إلى حد تبرئة الاحتلال ضمنيًا، باعتباره يرد على ما يسميه “المغامرات” أو “العمليات غير المحسوبة”.

أبراش، ومن موقعه كمثقف سلطة، يتبنى خطابًا يعيد إنتاج الرواية الصهيونية: إذ يرى أن الرد على المجازر يكون عبر “تغليب العقل” لا “الرد بالسلاح”، ويكرر لازمة “لا جدوى للمقاومة”، متجاهلاً التوازنات الجديدة التي فرضتها المقاومة المسلحة في وجه الاحتلال، لا سيما في غزة.

في مقالاته وتحليلاته، كثيرًا ما يتخذ أبراش موقفًا متعالياً على المقاومة، ويصوّرها كعقبة أمام الحل السياسي، متجاهلاً أن الاحتلال هو من يغلق أفق التسوية، ويعمّق الاستيطان، ويرفض حق العودة، ويواصل التهجير القسري.

الدلالات السياسية لانحيازه ضد المقاومة

مواقف أبراش ليست تعبيرًا عن رأي فردي بقدر ما هي تمثيل لتوجّه عام في قيادة السلطة الفلسطينية، قائم على التحريض ضد كل من يرفض الاستسلام.

وتحظى هذه المواقف بدعم ضمني من أجهزة السلطة التي تشن حملات اعتقال وتضييق ضد النشطاء والمجاهدين في الضفة الغربية، ضمن ما تسميه “الحفاظ على النظام العام”.

التحريض على المقاومة في خطاب أبراش يحمل دلالات عميقة. فهو لا يستهدف فقط الأداء العسكري للفصائل، بل ينال من رمزية المقاومة كرافعة للهوية الوطنية الفلسطينية، ويسعى إلى ضرب الالتفاف الشعبي حولها.

وهو بذلك يمهّد الطريق لمزيد من الارتهان لمسار التسوية الذي أثبت فشله، ويُضعف الجبهة الداخلية في مواجهة الاحتلال.

منبر التسوية والخضوع

أبراش ليس مجرّد منظّر سياسي، بل أحد الأدوات التي تستخدمها السلطة لإعادة إنتاج شرعيتها عبر خطاب استسلامي، يحمّل الفلسطينيين مسؤولية الاحتلال، ويبرئ دولة الاحتلال من جرائمها، ويدعو إلى الانخراط في مسارات تفاوضية لم تعد موجودة سوى في الخيال.

طوال السنوات الماضية، انخرط أبراش في مبادرات “تسوية” موازية ومؤتمرات “الحوار” مع إسرائيليين، كان آخرها مشاركته في ورش فكرية نظمتها مؤسسات تطبيعية في أوروبا، دعا فيها إلى ضرورة “استيعاب إسرائيل في الإقليم” والبحث عن “حلول غير تقليدية تتجاوز الخطاب العقيم للمقاومة”. وهو بذلك يُعيد إنتاج مفاهيم أوسلو بصيغة أكثر انبطاحًا.

الوجه الآخر للتنسيق الأمني

من المؤسف أن يتحوّل مثقف فلسطيني إلى بوق أمني لسلطة فقدت مشروعها الوطني. ففي الوقت الذي تتعرض فيه غزة للإبادة، وتُسفك دماء الفلسطينيين في الضفة، يُصر أبراش على التقليل من شأن المقاومة، ويدعو إلى نزع سلاحها، وكأنها العقبة الوحيدة أمام “التسوية”.

وفي هذا السياق، ينسجم موقفه مع ما تمارسه الأجهزة الأمنية في الضفة من قمع للمظاهرات، ومنع لمظاهر الدعم لغزة، واعتقال للمجاهدين السابقين.

واللافت أن مواقف أبراش لم تعد تلقى ترحيبًا حتى في أوساط المثقفين المحسوبين على تيار أوسلو. فمع انكشاف الطبيعة الإجرامية للاحتلال، وسقوط رهانات التسوية، بات الخطاب الذي يروّجه أبراش مثيرًا للاشمئزاز أكثر من كونه مثار جدل. ومع ذلك، يواصل الظهور في الفضائيات الرسمية وشبه الرسمية، كمحلل “رصين”، في مشهد يعكس عزلة السلطة ومثقفيها عن نبض الشارع.

وبالمحصلة فإن إبراهيم أبراش، الذي كان يُفترض أن يحمل مشروعًا ثقافيًا تحرريًا، اختار أن يكون جزءًا من منظومة القمع الناعم التي تهاجم المقاومة باسم “العقلانية”.

هو تجسيد لمثقف السلطة الذي يبرر الهزيمة، ويمارس التحريض باسم التحليل، ويقدّم نفسه كبديل عن الفصائل، في حين لا يملك مشروعًا ولا قاعدة شعبية. وفي زمن تعاظم المقاومة، تبدو هذه الأصوات جزءًا من الماضي، ومحاولة يائسة لإحياء مسار مات منذ زمن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى