مؤتمر تطبيعي يجمع القاتل بالضحية.. ودماء غزة لم تجف بعد

في الوقت الذي لا يزال فيه شلال الدم الفلسطيني ينزف في غزة، ومع استمرار المجازر الإسرائيلية التي تحصد أرواح المدنيين وتحول الأحياء إلى أنقاض، يُعقد غداً مؤتمر تطبيعي يجمع تحت سقف واحد كبار مجرمي الحرب الإسرائيليين وعدداً من الشخصيات الفلسطينية التي ارتضت الجلوس على طاولة “السلام” المزيف، متجاهلةً نداءات الأهالي ومشاهد الخراب والدمار، ومتناسيةً ذاكرة الضحايا التي ما زالت تنزف ألماً وغضباً.
في مشهد يكاد لا يُصدق، سيجلس القاتل إلى جوار ضحيته، يحتسيان القهوة ويتبادلان أحاديث “التعايش” و”السلام”، بينما الأطفال تحت الركام لم يُدفنوا بعد، والمجازر تُبث على الهواء مباشرة.
مؤتمر تُرفع فيه شعارات الحوار والتفاهم، لكنه في جوهره لا يعدو كونه محاولة سافرة لتبييض وجه الاحتلال وتطبيع علاقاته مع شخصيات فلسطينية يتم تقديمها كممثلين عن “صوت عاقل” أو “تيار معتدل”، رغم أن الشارع الفلسطيني يراهم أدوات مفرّطة بالدم، فاقدة للشرعية والمكانة.
مجرمو الحرب في ضيافة السلام المزعوم
يشارك في هذا المؤتمر التطبيعي عدد من كبار قادة الاحتلال المتورطين في جرائم حرب موثقة ضد الشعب الفلسطيني، وعلى رأسهم:
إيهود أولمرت، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، الذي قاد عدوان “الرصاص المصبوب” عام 2008-2009، والذي بدأه بقصف عشوائي مكثف أسفر عن استشهاد المئات في الأيام الأولى فقط. أولمرت هو المهندس السياسي والعسكري لمجزرة ارتكبت بدم بارد بحق المدنيين في غزة.
عامي أيالون، الرئيس السابق لجهاز “الشاباك”، الذي لطالما تباهى في مقابلاته التلفزيونية بقدرته على “كسر أعناق الانتفاضات الفلسطينية”، ويُعرف بتبنيه سياسات الاغتيال والاعتقال والتعذيب الممنهج، وبتقديم الفلسطينيين كـ “تهديد أمني” يجب إخضاعه بأي وسيلة.
إفرايم سنيه، وزير الحرب الأسبق، أحد أبرز منظّري فكرة “الردع الدموي”، ويبرر كل جريمة ارتكبها الاحتلال بأنها “دفاع عن النفس”، حتى وإن كانت بحق أطفال مدارس أو عائلات نائمة تحت سقف بيتها.
قائمة عار فلسطينية
في المقابل، يشارك في المؤتمر عدد من الشخصيات الفلسطينية المعروفة بمواقفها المتماهية مع مسار التسوية والتطبيع، ضمن ما بات يُعرف شعبياً بـ”قائمة العار”، والتي تضم:
ندى مجدلاني: مديرة مؤسسة “بيلد آب”، المعروفة بمشاريعها المشتركة مع جهات إسرائيلية تحت لافتة “الحوار المدني”.
ناصر القدوة: السياسي المخضرم الذي شغل منصب وزير الخارجية سابقاً، ويُتهم بتوفير غطاء سياسي لتحركات تطبيعية في أكثر من مناسبة.
سمير حليلة: رجل أعمال ووزير سابق، من الداعمين لفكرة “السلام الاقتصادي” مع الاحتلال.
دلال عريقات: أكاديمية وسياسية، تروّج لخطاب “الواقعية السياسية” وترى في التطبيع “أداة ضغط ناعمة”.
شداد العتيلي، وأشرف العجرمي، وسماح سلايمة، ونيفين صندوقة، ونضال فقهاء، وتهاني أبو دقة: جميعهم منخرطون في مشاريع ومبادرات تطبيعية تصنفها الأغلبية الساحقة من الفلسطينيين بأنها اختراق مباشر للثوابت الوطنية.
المثير في مشاركة هذه الشخصيات هو توقيت المؤتمر، إذ يأتي في ظل واحدة من أفظع مراحل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، حيث بلغ عدد الشهداء منذ أكتوبر 2023 أكثر من 55 ألفاً، غالبيتهم من الأطفال والنساء.
التطبيع في ظل المجازر.. محاولة لشرعنة الاحتلال
يرى كثير من الفلسطينيين في هذا المؤتمر مؤشراً خطيراً على تصاعد مشاريع “السلام المسموم” الذي يحاول فرض الرواية الإسرائيلية على حساب الدم الفلسطيني.
فبينما ترفض الأمم المتحدة ومعظم المنظمات الحقوقية حول العالم تبرير الجرائم الإسرائيلية، يسعى هذا النوع من المؤتمرات إلى تقديم القاتل بصورة “الشريك في السلام”، وتوفير واجهة فلسطينية تمنحه صك الغفران الأخلاقي والسياسي.
يقول أحد النشطاء في الداخل الفلسطيني، فضل عدم الكشف عن اسمه، إن “هذا المؤتمر يمثل طعنة في ظهر المقاومة، واستهزاءً بدماء الشهداء، وهو يروّج لمعادلة ظالمة: مجرم الحرب يصبح صانع سلام، والمقاوم يصبح إرهابياً”.
غطاء دولي وتمويل مشبوه
تأتي هذه المبادرات غالباً بغطاء أوروبي أو أمريكي، وتُموّل من جهات غربية تدّعي دعم السلام، لكنها عملياً تدفع نحو ترويض الفلسطينيين وقبول الاحتلال كأمر واقع.
وتشير مصادر مطلعة إلى أن مؤسسات تعمل تحت أسماء “التنمية” أو “بناء السلام” تضخ أموالاً في مشاريع تنموية مشروطة بتعاون فلسطيني-إسرائيلي، فيما يتم إقصاء كل من يرفض هذا المسار من الدعم أو الشراكة.
وفي الوقت الذي يعاني فيه القطاع الصحي في غزة من الانهيار الكامل، ويتم استهداف طواقم الإغاثة والمستشفيات، يُنفق بسخاء على مؤتمرات وفنادق تُنظّم للحديث عن “التفاهم والتعايش”، وكأن المشكلة تكمن في خطاب الكراهية وليس في القنابل التي تُمطر المدنيين ليلاً ونهاراً.
الذاكرة لا تمحى.. والمحاسبة قادمة
بالنسبة لغالبية الشعب الفلسطيني، فإن من يشارك في مثل هذه المؤتمرات يخون الرواية والدم، ويصطف في معسكر الجلاد. فالذاكرة الفلسطينية لا تزال حية، ولن تُمحى بلقاءات العلاقات العامة. والمجتمع الفلسطيني، رغم ما يعيشه من مآسٍ، لا يزال يملك القدرة على التمييز بين من يواجه الاحتلال، ومن يسعى لتجميله.
وفي الوقت الذي تُعقد فيه المؤتمرات وتُروّج فيه أكاذيب “السلام مع القاتل”، فإن صوت الأرض والدم والمقاومة لا يزال الأعلى، وسيظل يلاحق كل من اختار أن يكون جسراً لتبييض الاحتلال على حساب المعاناة والكرامة الفلسطينية.