السلطة الفلسطينية بين خضوع للإملاءات وعقوبات مستمرة
مفارقة التنسيق الأمني والعزلة السياسية

رغم التزامها الصارم بالخضوع للإملاءات الإسرائيلية والأميركية، تواجه السلطة الفلسطينية موجة متصاعدة من العقوبات والضغوط السياسية والاقتصادية من الطرفين نفسيهما اللذين تزعم أنها تتبعهما “من أجل حماية المشروع الوطني”.
هذه المفارقة الصارخة تُسلّط الضوء على أزمة الدور والجدوى التي تعاني منها السلطة، وتطرح تساؤلات جدية حول جدوى سياساتها القائمة على “مهادنة الاحتلال” والتنسيق معه، في مقابل واقع ميداني يُنذر بتآكل مكانتها أمام الداخل الفلسطيني والمجتمع الدولي على حد سواء.
استمرار العقوبات رغم الالتزام
في الوقت الذي يُمعن فيه رئيس السلطة محمود عباس في الدعوة إلى “سحب الذرائع” من فصائل المقاومة، متمسكًا بخطاب “عدم الانجرار” و”عدم التصعيد”، تتعرض السلطة الفلسطينية نفسها لسلسلة من الإجراءات العقابية الإسرائيلية والأميركية.
آخر هذه الإجراءات كان قرار الحكومة الإسرائيلية قطع التعاون المصرفي بين البنوك الإسرائيلية والفلسطينية، وهو تطور بالغ الخطورة قد يؤدي إلى شلل مالي كامل في الضفة الغربية، ويهدد استقرار مؤسسات السلطة.
القرار الإسرائيلي جاء ضمن سلسلة من الإجراءات أحادية الجانب التي تواصل تل أبيب تنفيذها ضد السلطة، من اقتطاع أموال المقاصة، إلى منع تحويل الضرائب الفلسطينية، وصولًا إلى عرقلة حركة مسؤوليها، ومواصلة بناء المستوطنات وتوسيعها على أراضي الضفة الغربية.
الحكم الأميركي ضد السلطة: عقوبة باسم القانون
في سياق متصل، أيدت المحكمة العليا الأميركية، يوم الجمعة، قانونًا يسمح للمواطنين الأميركيين الذين أصيبوا أو فقدوا ذويهم في هجمات في دولة الاحتلال الإسرائيلي، بمقاضاة السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية أمام المحاكم الأميركية، وهو قرار بالإجماع يُعد انتكاسة قانونية وسياسية خطيرة للسلطة.
وكتب رئيس المحكمة جون روبرتس في قراره أن “للحكومة الأميركية مصلحة ملحة في محاسبة مرتكبي الإرهاب الدولي”، معتبرًا أن المواطنين الأميركيين يتمتعون بـ”حماية خاصة” حتى أثناء وجودهم خارج الأراضي الأميركية.
والقرار يُمهّد الطريق لإعادة فتح دعاوى ضد السلطة ومنظمة التحرير تطالب بتعويضات قد تبلغ مئات الملايين من الدولارات، رغم أن محكمة الاستئناف الفيدرالية كانت قد ألغت سابقًا حكمًا بمنح تعويض قدره 650 مليون دولار للضحايا، استنادًا إلى خرق لحق السلطة في الإجراءات القانونية الواجبة بموجب التعديل الخامس للدستور الأميركي.
من التنسيق الأمني إلى العزلة السياسية
لا يمكن فصل هذه التطورات عن السياسات الفلسطينية الرسمية القائمة منذ اتفاق أوسلو، والتي قامت على مبدأ التنسيق الأمني مع الاحتلال، وتجنّب أي مواجهة سياسية أو ميدانية حقيقية.
فعلى مدى سنوات، كرّست السلطة أجهزتها الأمنية كأداة لاحتواء المقاومة في الضفة الغربية، ووفرت للاحتلال مظلّة استخباراتية وميدانية لتفادي الانفجارات الشعبية أو المسلحة.
لكن الواقع يؤكد أن هذا “الانضباط الأمني” لم يشفع للسلطة عند واشنطن أو تل أبيب، بل تحوّل إلى عامل ضعفٍ إضافي استُغلّ لفرض مزيد من الإملاءات، دون أي مقابل سياسي حقيقي.
فالرئيس الأميركي جو بايدن لم يتراجع عن قرارات ترامب بشأن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل أو نقل السفارة إليها، كما لم تُفتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، ولا عادت منظمة التحرير إلى قوائم الجهات التي تحظى بتعامل دبلوماسي رسمي.
“سحب الذرائع” لم يمنع العقاب
يُكثر الرئيس عباس من الحديث عن ضرورة “سحب الذرائع” من فصائل المقاومة، وكأن المقاومة هي السبب في العقوبات، بينما التجربة أثبتت أن خضوع السلطة الكامل لمطالب الاحتلال لم يمنع محاصرتها وتجفيف مصادر تمويلها.
فالسلطة التي تلتزم بالمهادنة، وتلاحق المقاومين، وتشارك في القمم الأمنية في شرم الشيخ والعقبة، وتمنع انتفاضة شاملة في الضفة الغربية، تواجه في المقابل حصارًا اقتصاديًا، وتراجعًا سياسيًا، وإذلالًا قانونيًا في المحاكم الأميركية.
وفي الوقت الذي يُروّج فيه قادة السلطة لـ”الانفتاح على المجتمع الدولي”، فإن وضعها القانوني بات أكثر هشاشة، وصورتها في الرأي العام الفلسطيني أكثر تآكلًا.
إذ باتت تُقدّم، لا كقيادة وطنية تفاوض على الحقوق، بل كسلطة محلية تؤدي وظائف أمنية وإدارية بالوكالة عن الاحتلال، ومع ذلك تتلقى الضربات من كل الجهات.
نهاية وهم “الشريك المطيع”
الواقع الذي يكشفه الحكم الأميركي الأخير وقرار تل أبيب بوقف التعاون المصرفي، هو أن السلطة الفلسطينية لم تعد تحظى بأي حماية سياسية حتى من حلفائها المفترضين.
فالإدارة الأميركية التي طالما اعتبرت السلطة “الشريك المقبول”، لم تتدخل لوقف المسار القانوني الذي يُحمّلها أعباء قد تُفجّر أزمتها المالية والسياسية. أما إسرائيل، فلم تعد ترى في استمرار وجود السلطة ضرورة استراتيجية، بل عبئًا مؤقتًا قابلًا للتفكيك متى شاءت.
سلطة بلا سيادة ولا حماية
في ضوء هذه التطورات، يتضح أن الرهان الفلسطيني الرسمي على “الانضباط السياسي والأمني” مقابل الدعم الدولي لم يعد صالحًا.
فالعقوبات تُفرض رغم الخضوع، والتهم تُكال رغم الاعتدال، والسلطة تُحاصر رغم التزامها بالتهدئة.
ولعل أخطر ما في هذا المشهد أن السلطة الفلسطينية تفقد أوراقها تباعًا دون أن تراجع خياراتها، بل تواصل سياسة “سحب الذرائع” حتى من دون أن تجد من يشكرها على ذلك. فالاحتلال يُصعّد، والإدارة الأميركية تحمّلها المسؤولية القانونية، والداخل الفلسطيني يفقد الثقة في جدوى استمرارها.
وفي النهاية، لا يبدو أن الخضوع كفيل بضمان البقاء، ولا أن التنسيق الأمني يقي من العقاب.