هل يخطط عباس لتغيير النظام السياسي واستبدال الانتخابات بالتعيين؟

في توقيت ملتبس سياسيًا وأخلاقيًا، أعلن الرئيس محمود عباس مؤخرا عن قرار إجراء انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني (برلمان منظمة التحرير) قبل نهاية العام 2025، وذلك في خضم حرب الإبادة المتواصلة في غزة، وتصاعد مخططات الاحتلال لضم الضفة الغربية وتفكيك ما تبقى من الهوية الوطنية الفلسطينية.
غير أن هذا القرار – الذي أُعلن دون تشاور وطني أو توافق فصائلي – أثار موجة من الشكوك والتحليلات التي ترى فيه محاولة لإعادة تشكيل النظام السياسي الفلسطيني على مقاس الرئيس وفريقه، بما يضمن استمرار نفوذهم لعقود قادمة، حتى ولو عبر مؤسسات فارغة من الإجماع والتمثيل الحقيقي.
إعلان منفرد… بلا توافق ولا تشاور
القرار صدر عن عباس بشكل منفرد ونص على إجراء انتخابات مجلس وطني قبل نهاية العام، وفق شروط عضوية تفرض الالتزام ببرنامج منظمة التحرير وقراراتها الدولية، بما في ذلك اعترافها بإسرائيل.
وهو ما يعني ضمنيًا إقصاء حركتي حماس والجهاد الإسلامي من عضوية المجلس، ما دامت هاتان الحركتان ترفضان ربط عضويتهما بشرط الاعتراف بإسرائيل، وترفضان التنازل عن الثوابت الوطنية الفلسطينية.
وقد وصف المحلل السياسي من رام الله هاني المصري القرار بأنه: “مرسوم دون أي تشاور وطني يفتقد الغطاء السياسي ويُضعف شرعيته”، مضيفًا أن توقيت القرار وتجاهله لأولويات المعركة الوطنية ضد الاحتلال “يعكس عقلية الاستئثار وإعادة إنتاج الشرعية الشكلية لخدمة فئة بعينها”.
مرحلة إعادة هندسة المشهد السياسي؟
يشير مراقبون إلى أن ما يجري ليس مجرد انتخابات شكلية للمجلس الوطني، بل ربما يكون جزءًا من خطة أوسع لإعادة هندسة النظام السياسي الفلسطيني بالكامل، عبر أدوات تبدو ديمقراطية الشكل لكنها تعمل كآليات تعيين فعلية لتمكين طبقة سياسية تقليدية تقودها حركة فتح بقيادة عباس.
فإذا تمت الانتخابات وفقًا لشروط الرئيس، في ظل غياب قوى فاعلة، وحرمان الحركات الأساسية من الترشح أو التمثيل، فإن المجلس الوطني الجديد سيأتي بمكونات محددة مسبقًا، لا تخرج عن دائرة الولاء السياسي للسلطة الحالية.
ومن هناك، قد يُستخدم هذا المجلس لانتخاب خليفة لعباس ضمن معادلة سياسية مغلقة، دون المرور بانتخابات رئاسية عامة أو تجديد شرعي لكل من المجلس التشريعي والرئاسة والسلطة.
تعزيز الفردانية وإضعاف التعددية
يرى البعض أن الرئيس عباس، بعد عقدين في السلطة، يسعى لتأبيد نهج الحكم الفردي عبر إعادة ضبط مؤسسات منظمة التحرير والسلطة بحيث تبقى أذرعًا لسلطة مركزية لا تقبل التعدد، ولا تحترم قواعد المشاركة.
فبدلاً من الدعوة إلى انتخابات شاملة رئاسية وتشريعية ومجلس وطني وفق مخرجات حوار وطني شامل، يذهب عباس إلى مسار انتقائي – كما يقول مدير مركز يبوس سليمان بشارات – من شأنه تقويض الثقة وتعميق الانقسام.
وأشار بشارات إلى أن “الذهاب إلى انتخابات المجلس الوطني بهذا الشكل وبهذا التوقيت، دون توافق، سيؤدي إلى تعميق أزمة الشرعية وليس حلّها”.
في ظل المجازر: توقيت يثير الريبة
المثير للقلق أن هذا التحرك يتم في ذروة حرب إبادة متواصلة في قطاع غزة، وسط دمار ودم ومجازر وتهجير، إلى جانب تصعيد استيطاني وتهويدي ممنهج في الضفة الغربية، وتفكك السلطة فعليًا في بعض مناطقها.
في هذا السياق، بدت دعوة عباس للانتخابات وكأنها غريبة عن الهمّ الفلسطيني الحقيقي، لا سيما وأن كل شروط الانتخابات غير متوفرة: لا بيئة أمنية، ولا ضمانات نزاهة، ولا مشاركة وطنية، ولا توافق سياسي.
ويطرح السؤال نفسه: من سيشارك في هذه الانتخابات؟ ومن سيرشح؟ وهل الهدف حقًا تجديد الشرعيات أم تجديد الولاءات؟
الشرط الأخطر
ينص القرار على شرط الالتزام ببرنامج المنظمة والاتفاقات الدولية، وهو ما يُترجم في السياسة الفلسطينية بوضوح إلى الاعتراف بإسرائيل والالتزام باتفاق أوسلو.
هذا الشرط يُقصي بالضرورة القوى الرافضة لهذا المسار، وفي مقدمتها حماس والجهاد، كما يحوّل المجلس الوطني إلى نادٍ مغلق يُدار ضمن دائرة محددة الأعضاء مسبقًا.
وبدلًا من أن يكون المجلس ساحة حوار وتمثيل وطني جامع، يُعاد إنتاجه ليكون منصة “شرعنة” لمسار سياسي فشل في إنهاء الاحتلال أو وقف الاستيطان أو حماية الفلسطينيين من المجازر.
إعادة تدوير منظومة فقدت شرعيتها؟
المشكلة لا تتعلق بالمجلس الوطني فقط، بل بكل مكونات النظام السياسي الفلسطيني، الذي تآكلت شرعيته منذ أكثر من عقد ونصف بسبب تعطيل الانتخابات، وتفرد القيادة، وفشل مسار أوسلو، وغياب مشروع وطني جامع.
واليوم، يبدو أن ما يسعى إليه عباس هو إعادة تدوير هذه المنظومة من خلال بوابة المجلس الوطني، وتوظيفه كآلية لاختيار خليفة موالٍ وضمان استمرار نهجه السياسي.
لكن مثل هذه الخطوة – وفق محللين – ستواجه رفضًا شعبيًا وفصائليًا واسعًا، وقد تؤدي إلى مزيد من الانقسام والتفكك في ظل لحظة مصيرية من الصراع الوجودي مع الاحتلال.
في نهاية المطاف، الشرعية لا تُستورد من الخارج، ولا تُفرض بمرسوم أو لجنة، بل تُستمد من التمثيل الحقيقي والقرار الجماعي والمشاركة الوطنية.
وإذا كان عباس يسعى إلى إنهاء حياته السياسية بتوريث كرسيه وخنق التعددية، فإنه بذلك يُقوّض ما تبقى من صدقية النظام السياسي الفلسطيني، ويمنح الاحتلال فرصة ذهبية لاستكمال مشروعه: تفكيك الهوية الفلسطينية من داخلها.