
في لحظة كانت يفترض أن ينتصر فيها الضمير الإنساني، انقضّت آلة القتل الإسرائيلية على مدينة دير البلح، لتكتب فصلاً دموياً جديداً في سجل الجرائم التي لا تنتهي.
ولم تكن المجزرة التي وقعت فجر الجمعة، مجرد قصف عابر أو استهداف عشوائي، بل كانت مشهداً مركباً من القتل الممنهج، والإبادة المتعمدة، والتشويه الكامل لما تبقى من القيم الإنسانية.
دير البلح واستهداف فرق الإغاثة
على مقربة من تقاطع “رمزون دير البلح”، كانت شاحنتان تنقلان الأمل في شكل أدوية ومستلزمات طبية موجهة إلى مستشفيات تنهكها الجراح، يحاصرها الموت، وتفتك بها المجاعة.
وبينما سُجلت تحركات لمسلحين يعتزمون نهب الشاحنات، سارعت فرق تأمين شعبية وأخرى أمنية إلى المكان، ليس للقتال، بل لحماية الحياة.
ولكن الاحتلال لم يحتمل هذا المشهد. لم يرق له أن ترى غزة بارقة أمل. فكانت الطائرات المسيرة في الموعد، وأطلقت صواريخها لتبدأ حفلة القتل. أعقبها قصف حربي عنيف استهدف العناصر ذاتها، وأسقط ستة شهداء، بينهم الأسير المحرر وسام خليل أبو سمرة، الذي قاتل قبل سنوات خلف القضبان، واستُشهد اليوم على مفترق الأمل المسروق.
العدوان لا يترك شهوداً
ما إن اندفع المواطنون والمسعفون لإغاثة الجرحى، حتى عاجلتهم طائرات الاحتلال بضربة ثانية. قُصفت سيارات الإسعاف، واستُهدفت الطواقم الطبية، بل حلّقت طائرات الاستطلاع على ارتفاع منخفض لإطلاق النار على كل من يتحرك، لتزرع الرعب وتمنع الإغاثة.
ثماني غارات متتالية، كانت كافية لتمزيق أجساد المتطوعين، وتعطيل كل محاولة لإنقاذ المصابين، وإبقاء الجثث تنزف في العراء، بلا أحد، بلا ضمير، بلا حماية.
هندسة الموت
ولا يمكن فهم ما حدث في دير البلح كحادث عرضي. إنها سياسة إسرائيلية واضحة المعالم، تستهدف كل ما يثبت قدرة الفلسطينيين على الحياة.
“هندسة التجويع” باتت مصطلحاً متداولاً بين الحقوقيين، لكن ما جرى فجر الجمعة، يتجاوز ذلك؛ إنها “هندسة القتل لمن يمنع الجوع”، وقتل لمن يمد يد العون.
وأدان المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، المجزرة، مؤكداً أن عناصر التأمين كانوا يقومون بواجبهم الإنساني في تأمين وصول المساعدات إلى مستشفيات منهارة.
وقال في بيان رسمي إن الاحتلال نفّذ 8 استهدافات متتالية خلال ساعات الليل والفجر، وإن بعض الشهداء ما زالوا في الموقع، ولا يمكن انتشالهم بسبب استمرار القصف.
كما طالب المكتب بتدخل دولي فوري، وفتح تحقيق عاجل، وتوفير حماية حقيقية لفرق الإغاثة، وإلزام الاحتلال بوقف استهداف الطواقم المدنية.
وما حدث في دير البلح لم يكن مجرد قصف، بل عملية اغتيال ممنهجة لكل ما يمتّ للنجدة والكرامة بصلة. لم يكن استهدافاً عشوائياً، بل هجوماً محسوباً على فكرة العون نفسها، على كل يد تمتد لتُسعف، وكل صوت ينادي بالحياة وسط الموت.
في غزة، حيث يُقتل المسعفون قبل الجرحى، وتُستهدف القوافل قبل أن تُفرغ حمولتها، وتُباد فرق التأمين كما لو كانت أهدافاً عسكرية، يصبح الصمت الدولي خيانة مكشوفة، وتتحوّل القيم الإنسانية إلى رماد متناثر فوق أشلاء المتطوعين.