تصعيد خطاب السلطة ضد سلاح المقاومة… خيانة وطنية تنسجم مع حرب الإبادة

في لحظة تاريخية يتعرض فيها الشعب الفلسطيني في غزة لحرب إبادة جماعية، تختار قيادة السلطة الفلسطينية أن تصعد خطابها المطالب بنزع سلاح حركة حماس وفصائل المقاومة، متجاهلة الدم المسفوك والبيوت المهدمة ومئات آلاف العائلات التي شردتها آلة الحرب الإسرائيلية.
ويؤكد مراقبون أن هذا التصعيد السياسي والإعلامي ليس مجرد اجتهاد خاطئ أو ترف سياسي، بل ينسجم بوضوح تام مع الأهداف الإسرائيلية والأميركية من هذه الحرب، ويكشف عمق ارتباط سياسات السلطة بالتنسيق الأمني مع الاحتلال، حتى في أكثر اللحظات مأساوية من تاريخ شعبنا.
تواطؤ صريح من السلطة مع الاحتلال
منذ بداية حرب الإبادة، كانت دولة الاحتلال واضحة في هدفها: سحق المقاومة في غزة، سواء أكانت بقيادة حماس أو أي فصيل آخر.
لكن الفشل العسكري الإسرائيلي في القضاء على المقاومة كليًا، دفع حكومة الاحتلال إلى البحث عن بدائل سياسية تحقق ما عجز عنه الجيش.
هنا تحديدًا يطل خطاب السلطة الفلسطينية، متناغمًا مع رغبة تل أبيب وواشنطن، عبر رفع نبرة الهجوم على سلاح المقاومة ووصفه بالخطر على مستقبل الفلسطينيين، وكأن الأزمة تكمن في سلاح المقاومة لا في الاحتلال ذاته.
وبهذا الصدد يحذر الباحث والكاتب أمجد أبو جبريل من تداعيات أي استجابة رسمية فلسطينية للسياسات الأميركية/الإسرائيلية الرامية إلى تجريم المقاومة المسلحة أو وصفها بالإرهاب.
إذ يرى أبو جبريل أن مثل هذه السياسات تعيد إذكاء الانقسام الفلسطيني، وتثير مجددًا مسألة تمثيل الشعب الفلسطيني، وتشعل الشكوك بين الفصائل الفلسطينية.
لكن السلطة الفلسطينية تتجاهل عمدًا هذه التحذيرات، وتواصل خطابها المحرض ضد سلاح المقاومة، بما يوحي وكأنها باتت ترى في سلاح الفصائل خطرًا أكبر من الاحتلال نفسه.
تضليل سياسي
تمارس السلطة الفلسطينية اليوم أسوأ أشكال التضليل السياسي، إذ تتجاهل حقيقة جوهرية وهي أن المشكلة ليست في وجود المقاومة وسلاحها، وإنما في وجود الاحتلال الإسرائيلي الذي يرفض أي كيان فلسطيني موحد، حتى لو كان منزوع السلاح أو خاضعًا بالكامل للاشتراطات الأميركية.
يختصر الصحفي عميد شحادة هذه المأساة حين يقول إن الفلسطينيين قدموا للعالم نموذجين: سلطة عقائدية في غزة تريد محاربة (إسرائيل) عسكريًا، وسلطة علمانية في الضفة تريد السلام بأي ثمن، حتى لو كان الثمن هو نزع سلاح شعبها”.
ويضيف “ومع ذلك، لا تريد دولة الاحتلال تريد أيًّا من هذين النموذجين. لأنها ببساطة لا تريد أي كيان سياسي فلسطيني مستقل في غزة أو الضفة. وهدف الاحتلال أن يبقى الفلسطينيون بلا سلطة وبلا سلاح، وأن يُقتلوا أو يُهجَّروا”.
هذه الحقيقة يدعمها تصريح ماركوس شنايدر من مؤسسة فريدريش إيبرت، إذ يقول إن (إسرائيل) لا تبدي أي رغبة في إيجاد كيان سياسي بديل في غزة، حتى لو كان خاضعًا لها بالكامل. فلو كانت تبحث عن شريك فلسطيني جديد لبدأت في التواصل معه منذ بداية الحرب، لكنها لم تفعل، لأنها لا ترى أصلاً أي ضرورة لوجود كيان سياسي فلسطيني في القطاع.
توقيت مشبوه
المريب في خطاب السلطة الفلسطينية أنه يتصاعد عادة كلما ارتفعت حدة الحديث عن اتفاق قريب لوقف إطلاق النار. وكأن السلطة تريد استثمار لحظة البحث عن التهدئة لتوجيه ضربات سياسية للمقاومة عبر تحريض الشارع الفلسطيني والعربي والدولي ضدها، والترويج لوهم أن المشكلة في غزة هي وجود سلاح المقاومة، وليس الاحتلال أو سياسات الإبادة الجماعية.
وبحسب مراقبين فإن هذا التوقيت ليس بريئًا. فهو يخدم خطاب دولة الاحتلال التي تريد، في أي اتفاق تهدئة، ضمان تحييد المقاومة وتجريدها من السلاح، وإبعادها عن أي دور في مستقبل القطاع.
ووفق تحليل هاني المصري، ثمة مؤشرات قوية على اقتراب إبرام صفقة مرحلية قد تتم قبل نهاية الشهر الجاري، لأسباب تتعلق بحسابات نتنياهو الداخلية والضغوط الأميركية والدولية. الجيش الإسرائيلي نفسه بات يدفع نحو الصفقة بعد شعوره بأن الحرب وصلت إلى طريق مسدود.
وفي ظل هذه المعطيات، يصبح تصعيد السلطة خطابها ضد سلاح المقاومة جزءًا من التهيئة السياسية لإدخال غزة في مرحلة جديدة، يكون فيها نزع سلاح المقاومة شرطًا مسبقًا لأي ترتيبات تتعلق بـ«اليوم التالي».
لكن السؤال الأهم: كيف تطالب السلطة بنزع سلاح المقاومة في لحظة حرب إبادة؟ كيف يتجاهل مسؤولوها أن سلاح المقاومة، مهما اختلف الفلسطينيون حوله، هو اليوم السد الأخير الذي يردع الاحتلال عن اجتياح غزة بالكامل وإكمال مخطط التهجير الجماعي؟ صحيح أن المقاومة لا تستطيع تحقيق نصر ساحق يفرض على الاحتلال الانسحاب من كل فلسطين، لكن في الوقت ذاته لا يجوز التقليل من تأثيرها في منع الاحتلال من فرض حل نهائي يقوم على تهجير أهل غزة وإسقاط كل أشكال المقاومة.
ويؤكد المراقبون أن خطاب السلطة اليوم لا يمثل فقط خطأ سياسيًا فادحًا، بل يمثل خيانة وطنية بكل ما تعنيه الكلمة. هو خطاب يتماهى مع مخططات الاحتلال، ويعيد إنتاج مفاهيم «التنسيق الأمني» في أسوأ تجلياته، حيث يصبح الفلسطيني شريكًا في حماية أمن إسرائيل، لا في حماية شعبه.
وفي الوقت الذي يُقتل فيه الأطفال في غزة، ويُسحق المدنيون تحت أنقاض منازلهم، تختار السلطة أن ترفع صوتها لا ضد الاحتلال، بل ضد سلاح شعبها. وهذه جريمة لا تغتفر، ولا يجب أن تمرّ بلا محاسبة وطنية أو تاريخية.