الحرب النفسية الإسرائيلية عبر شبكة أفيخاي على غزة أداة لتهجير قسري

منذ اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة، لم يقتصر العدوان على القصف العسكري المباشر، بل اتخذ أشكالًا أخرى لا تقل خطورة، أبرزها الحرب النفسية الممنهجة بهدف تفكيك الروح المعنوية للسكان ودفعهم نحو خيارات قسرية في مقدمتها التهجير الجماعي. فالمعركة التي تدور في أذهان الغزيين لا تقل شراسة عن تلك التي تدور في الميدان.
وأحد أبرز أدوات الحرب النفسية هو التلويح المستمر بعملية عسكرية واسعة لإعادة احتلال مدينة غزة. هذه الرسائل المتواترة التي يتم تسريبها عبر الإعلام الإسرائيلي أو بعض الأبواق المرتبطة به تهدف إلى بث الخوف في قلوب مئات آلاف المدنيين.
الهدف المعلن هو السيطرة الميدانية، لكن الهدف الخفي يكمن في دفع السكان للنزوح الجماعي نحو الجنوب والوسط، حيث ينتشر الجيش الإسرائيلي ويشرف على مناطق مكتظة ومزدحمة بالنازحين أصلاً. بذلك، يتحقق مشروع “إفراغ غزة” تدريجيًا دون الحاجة إلى استخدام أساليب الإبادة المباشرة فقط.
أدوات الحرب النفسية: شبكة أفيخاي نموذجًا
لا يخفى على أحد أن الاحتلال يوظف أذرعًا إعلامية مشبوهة لتوجيه الرأي العام وإدارة هذه الحرب النفسية. ولعل أبرزها ما يُعرف بـ “شبكة أفيخاي”، وهي مجموعة من الحسابات والمنصات المرتبطة بالناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفخاي أدرعي، والتي تتخصص في بث رسائل تحريضية واستفزازية.
بدأت هذه الشبكة مؤخرًا بالتحريض العلني على نزوح أهالي غزة، مستخدمة خطابًا مزدوجًا: من جهة تدّعي الحرص على أرواح المدنيين، ومن جهة أخرى تسعى إلى إقناعهم بأن البقاء في مناطقهم سيعني الموت المحقق.
وهذا النوع من الخطاب هو تكتيك نفسي يهدف إلى تفكيك العلاقة بين المواطنين وأرضهم، وتحويل الصمود إلى خيار محفوف بالمخاطر الفردية بدل كونه فعلًا وطنيًا جماعيًا.
الاستراتيجية الإسرائيلية: التهجير عبر الترهيب
يبدو واضحًا أن دولة الاحتلال باتت تعتمد على سياسة الترهيب المنظم لتحقيق هدف التهجير. فهي لا تكتفي بالقصف المتقطع، بل ترافقه بإشاعات عن اجتياحات قادمة، وتضخيم للقدرة العسكرية التي ستستخدمها في “المعركة الحاسمة”.
هذه الرواية تُعزّز بمقاطع ومنشورات ورسائل نصية تُرسل عبر الهواتف، وتحذيرات متكررة عبر مكبرات الصوت والطائرات المسيّرة. كلها أدوات نفسية تهدف إلى إحداث انهيار في إرادة السكان وإقناعهم أن الرحيل هو “الخيار الأقل كلفة”.
صمود السكان: مقاومة نفسية قبل أن تكون عسكرية
على الرغم من حجم الضغوط، يُظهر سكان غزة تماسكًا استثنائيًا في مواجهة هذه الحرب النفسية. فالتجارب التاريخية مع الاحتلال أثبتت أن النزوح لا يجلب الأمن، بل يفتح أبواب التشريد المستمر.
لقد تعلّم الغزيون من نكبة 1948 ونكسة 1967 أن التمسك بالأرض هو السلاح الأهم في مواجهة محاولات الاقتلاع. ومن هنا، تتجلى مقاومة مدنية صامتة تتمثل في بقاء العائلات في منازلها رغم الخطر، ورفض الانصياع لرسائل التخويف.
والحرب النفسية الإسرائيلية لا تستهدف غزة فقط، بل تحمل رسائل أبعد مدى. فهي محاولة لتبرير السياسات الإسرائيلية أمام المجتمع الدولي بالقول إن “المدنيين غادروا طواعية”، بينما الحقيقة أن النزوح يتم تحت الضغط والخوف والإكراه.
كما تسعى دولة الاحتلال إلى تقسيم الموقف الفلسطيني الداخلي عبر تصوير المقاومة كسبب للمعاناة، واستخدام إعلامها المتحالف –بما في ذلك بعض المنصات العربية– لترويج فكرة أن النزوح “ضرورة إنسانية”، بينما هو في الحقيقة جزء من مشروع سياسي طويل الأمد لإعادة رسم خارطة غزة ديموغرافيًا.
الإعلام كجبهة موازية للحرب
توظيف الإعلام كأداة حرب لم يعد مجرد نشاط دعائي، بل أصبح جبهة قتالية مستقلة. فمن خلال السيطرة على السردية الإعلامية، تحاول دولة الاحتلال إدارة إدراك العالم الخارجي وتوجيه وعي السكان في الداخل.
شبكة “أفيخاي” ليست سوى مثال، إذ تنشط أيضًا منصات ناطقة بالعربية مرتبطة بأجهزة مخابرات، وتعيد إنتاج الرواية الإسرائيلية بلغة “نصيحة” أو “تحذير”، في محاولة لخلط الأوراق.
رغم كل ذلك، تظهر المعطيات أن إستراتيجية الحرب النفسية لم تحقق أهدافها بشكل كامل. فالنزوح الواسع الذي راهنت عليه إسرائيل لم يحدث، وظلّت غالبية سكان مدينة غزة متمسكين بمنازلهم وأحيائهم.
هذا الفشل يعود إلى وعي الناس بمرامي الاحتلال، وإلى إدراكهم أن النزوح القسري لن يجلب لهم سوى حياة الخيام واللجوء المؤقت، وربما يفتح الطريق أمام سيناريو تهجير خارج حدود القطاع.
وعليه فإن الحرب النفسية التي يشنها الاحتلال على غزة ليست تكتيكًا عابرًا، بل هي جزء من عقيدة عسكرية إسرائيلية تستهدف تغيير الواقع الديموغرافي والسياسي للقطاع عبر التهجير القسري المقنّع.
لكن، كما أثبت التاريخ الفلسطيني، فإن إرادة البقاء أقوى من كل محاولات الاقتلاع. وبينما يراهن الاحتلال على الخوف والضغط، يراهن سكان غزة على الذاكرة الجمعية والصمود كسلاحين يمنعان تكرار النكبة.