منع عباس من حضور الجمعية العامة: محطة جديدة بمسلسل الإذلال السياسي للسلطة

يمثل قرار الولايات المتحدة الأمريكي القاضي بمنع الرئيس محمود عباس والوفد المرافق له من حضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، محطة جديدة في مسلسل الإذلال السياسي للسلطة الفلسطينية.
ويرى مراقبون أن المنع الأمريكي لعباس من حضور الحدث الدبلوماسي الذي يعد أبرز أدواته لمحاولة البقاء في المشهد السياسي، يختزل أزمة السلطة الفلسطينية المستمرة منذ تأسيسها: كلما أذلت نفسها أمام واشنطن وتل أبيب، طالبتاها بمزيد من التنازلات، فيما تبرر قيادتها بأن “الأولوية لمصالحنا وامتيازاتنا الشخصية”.
إذ منذ اتفاق أوسلو 1993 وما تبعه من ترتيبات أمنية واقتصادية، وضعت السلطة الفلسطينية نفسها في موقع التابع، سواء عبر التنسيق الأمني مع الاحتلال أو عبر الارتهان المالي للمساعدات الأمريكية والأوروبية.
ومع مرور الوقت، تحوّل هذا المسار إلى نمط متكرر: كلما قدّمت السلطة تنازلاً، جاء الرد الإسرائيلي والأمريكي بمزيد من الإذلال والضغط.
وبحسب المراقبين فإن المنع الأمريكي الأخير لعباس ليس حدثاً معزولاً، بل يأتي في سياق طويل من تقليص مكانة السلطة على الساحة الدولية. ففي السنوات الأخيرة، جرى تهميش صوتها في المحافل الكبرى، مقابل تعزيز نفوذ أطراف إقليمية ودولية أخرى على حسابها.
دلالات المنع الأمريكي
يحمل المنع الأمريكي عدة دلالات سياسية عميقة:
تجريد من الشرعية الدولية: منع عباس من منصة الأمم المتحدة يُظهر أن واشنطن لم تعد ترى في السلطة ممثلاً سياسياً ذا قيمة، بل عبئاً يمكن الاستغناء عنه.
رسالة ابتزاز واضحة: الهدف هو دفع القيادة الفلسطينية لتقديم المزيد من التنازلات، سواء في ملفات التنسيق الأمني أو القبول بترتيبات إقليمية تشمل التطبيع العربي مع إسرائيل.
تكريس العزلة السياسية: بينما تسعى فصائل المقاومة لكسب اعتراف شعبي ودولي بقدرتها على الصمود، تُترك السلطة عالقة في أزقة مغلقة، لا يُسمح لها حتى بعرض مواقفها الشكلية في الجمعية العامة.
السلطة والبحث عن الامتيازات
المفارقة أن قيادة السلطة غالباً ما ترد على هذه الإهانات بالتمسك أكثر بخياراتها القديمة.
فبدلاً من مراجعة مسارها السياسي أو الانحياز للشارع الفلسطيني، يصرّ عباس والمحيطون به على الحفاظ على امتيازاتهم الشخصية: حرية التنقل، الامتيازات الدبلوماسية، استمرار المساعدات، والتغطية السياسية الإسرائيلية–الأمريكية.
ويثير هذا السلوك سخطاً واسعاً في الشارع الفلسطيني، إذ يظهر أن السلطة باتت كياناً وظيفياً أكثر من كونها قيادة وطنية، مهمتها إدارة السكان تحت الاحتلال وليس قيادة مشروع تحرري.
علاقة الإذلال بالتنازلات
منذ تأسيسها، ارتبطت علاقة السلطة بالاحتلال وأمريكا بمعادلة غير متوازنة: السلطة تقدم التنازلات، وتوافق على صيغ أمنية واقتصادية تضر بمصالح شعبها.
في المقابل، تُكافأ بمزيد من الضغوط، كاقتطاع أموال المقاصة، أو منع التنقلات، أو فرض قيود دبلوماسية.
حتى في المرات القليلة التي حاولت السلطة اتخاذ خطوات رمزية في الأمم المتحدة، مثل طلب العضوية الكاملة أو الانضمام لمحكمة الجنايات الدولية، واجهت تهديدات أمريكية وإسرائيلية مباشرة بوقف المساعدات.
وعليه جاء قرار المنع الأمريكي كذروة لهذا النهج: إذلال علني أمام المجتمع الدولي، يؤكد أن “مكافأة” السلطة على خضوعها هي المزيد من التهميش.
ويعتقد المراقبون أن هذا التطور ستكون له انعكاسات على عدة مستويات:
فقدان ما تبقى من هيبة السلطة: فشلها في الدفاع حتى عن حق رئيسها في المشاركة بالجمعية العامة يعزز صورة الضعف والعجز.
تعميق الفجوة مع الشارع: الفلسطينيون الذين يعانون الحصار والاحتلال ينظرون إلى السلطة باعتبارها عاجزة عن تمثيلهم أو الدفاع عن حقوقهم.
تعزيز الرواية البديلة: فصائل المقاومة ستستثمر هذا الحدث للتأكيد أن طريق التحرر لا يمر عبر أوسلو ولا عبر استجداء المنابر الدولية، بل عبر المقاومة الشعبية والمسلحة.
ويشار إلى أن قرار المنع الأمريكي لم يكن ليصدر دون تنسيق مع دولة الاحتلال الإسرائيلي التي لطالما رأت في وجود السلطة “خادماً أمنياً” مفيداً، لكنه لم يعد قادراً على تقديم المزيد.
ففي نظر تل أبيب، لم يعد عباس قادراً على ضمان هدوء الشارع الفلسطيني ولا على منع صعود المقاومة، وبالتالي فإن إضعافه أو تهميشه لا يحمل مخاطرة كبيرة.
أما واشنطن، فهي توازن بين إبقاء السلطة في “غرفة الإنعاش” لاستخدامها عند الحاجة، وبين معاقبتها عندما تفكر في اتخاذ مواقف مستقلة ولو شكلية.
كما أن الرسالة الأوضح من هذا الحدث أن العالم لم يعد يأخذ السلطة على محمل الجد، وأن مصيرها بات أقرب إلى التلاشي التدريجي ما لم يجرِ تغيير جذري في بنيتها وخياراتها. لكن وفق ما يبدو من ردود القيادة، فإنها لا تزال تعتبر أن بقاء الكرسي أهم من بقاء القضية.