تلفيق الاتهامات الفضفاضة نهج السلطة لقمع الحريات العامة

تعتمد أجهزة أمن السلطة الفلسطينية سياسة ممنهجة تقوم على تلفيق الاتهامات الفضفاضة والمرنة لقمع الحريات العامة، وملاحقة النشطاء السياسيين والحقوقيين، في محاولة لإضفاء غطاء “قانوني” على سلوك أمني يفتقر في جوهره إلى أي سند قضائي حقيقي.
فبدلاً من مواجهة الرأي بالرأي، تلجأ السلطة إلى معجم اتهامي جاهز، تتصدره عناوين مثل “إثارة النعرات الطائفية” و”قدح المقامات العليا” و”الذم الواقع على السلطة”، وهي تهم تُستخدم كأدوات ردع أكثر من كونها توصيفات قانونية دقيقة.
ولم يسجل التاريخ الحديث للسلطة الفلسطينية أن ناشطاً سياسياً أودع سجونها على خلفية قضية جنائية حقيقية. فجميع المعتقلين السياسيين تقريباً يواجهون اتهامات وُصفت على نطاق واسع بأنها “خيالية” أو “مفصلة”، لا تستند إلى وقائع ملموسة على الأرض، بقدر ما تعكس رغبة أمنية في إسكات الأصوات الناقدة وتقييد الفضاء العام.
السلطة الفلسطينية ويكيبيديا
تعد تهمة “إثارة النعرات الطائفية” المثال الأبرز على هذا العبث القانوني. فالمجتمع الفلسطيني، بحكم تركيبته التاريخية والاجتماعية، يُعد من أكثر المجتمعات تجانساً دينياً ومذهبياً، ولا يعرف صراعات طائفية بالمعنى المتداول في دول أخرى.
وعليه، فإن توجيه هذه التهمة لناشطين سياسيين يطرح تساؤلات جدية حول الأساس الواقعي والقانوني لها، ويجعلها أقرب إلى مادة للسخرية منها إلى لائحة اتهام قابلة للصمود أمام القضاء.
أما تهمة “قدح المقامات العليا”، فهي الأخرى تكشف عن أزمة أعمق في فهم السلطة لمفهوم الدولة والقانون.
فالقانون الفلسطيني نظرياً، لا يعرف تقسيمات طبقية أو “مقامات” تعلو على المواطن العادي، ولا يمنح أي مسؤول حصانة معنوية تحول دون مساءلته أو انتقاده.
غير أن استخدام هذه التهمة يوحي بأن السلطة تتعامل مع نفسها بوصفها كياناً فوق المجتمع، وأنها تنظر إلى المواطنين لا كأصحاب حقوق، بل كأفراد مطلوب منهم الامتثال والصمت.
الاعتقالات السياسية في الضفة الغربية
تبقى تهمة “الذم الواقع على السلطة” الأكثر شيوعاً في هذا السياق، نظراً لمرونتها الواسعة وقدرتها على استيعاب أي تعبير عن الرأي في الشأن العام.
فبموجب هذا التوصيف المطاط، يمكن ملاحقة أي مواطن يكتب منشوراً، أو يدلي بتصريح، أو يشارك في نقاش ينتقد أداء السلطة أو سياساتها. وهكذا تتحول التهمة إلى سيف مسلط على رقاب الناس، يقيّد حرية التعبير ويخلق حالة من الرقابة الذاتية والخوف العام.
لكن الأخطر في هذا النهج هو ما يصفه حقوقيون بـ”بكج الاتهامات”، حيث تُجمع هذه التهم الفضفاضة في ملف واحد، ويُضاف إليها أحياناً اتهام “حيازة السلاح”، لتبدو القضية أكثر خطورة وتبرر تمديد الاعتقال ورفع سقف العقوبة المحتملة.
وبهذه الطريقة، لا يعود الهدف تحقيق العدالة، بل تعظيم الضغط النفسي والقانوني على الناشط المستهدف.
في هذا الإطار، أكد مدير مجموعة “محامون من أجل العدالة” مهند كراجة أن السلطة تستخدم بشكل ممنهج تهمًا وهمية للاستمرار في اعتقال الناشط مزيد سقف الحيط.
وأوضح كراجة أن النيابة العامة ألصقت بالناشط سلسلة من التهم، من بينها إثارة النعرات الطائفية، والذم الواقع على السلطة، وإطالة اللسان على المقامات العليا، وحيازة سلاح، رغم أن التحقيق – بحسب قوله – يدور فعلياً حول دوره في الطعن الدستوري الذي قدمه ضد رئيس السلطة محمود عباس.
وأشار كراجة إلى أن هذا التناقض الصارخ بين جوهر القضية ولائحة الاتهام يعكس استخدام القضاء كأداة سياسية، لا كسلطة مستقلة.
وتساءل بلهجة تحذيرية: “هل تعديل الدستور الفلسطيني يؤثر فقط على الناشط المعتقل السياسي مزيد سقف الحيط؟”، قبل أن يضيف أن آثار هذه التعديلات تطال الجميع، من مؤسسات المجتمع المدني وحقوق الإنسان، إلى النقابات والحراكات الشعبية والأحزاب، وصولاً إلى التجار ورياض الأطفال والمطاعم.
وأضاف: “مزيد أخذ هذه المهمة عنكم، ولذلك اعتُقل. وحتى إن كنتم لا تتفقون معه في بعض ما يكتب أو ينشر، فإن أقل ما يمكن فعله هو التضامن معه والمطالبة بالإفراج عنه”.
وتعكس هذه القضية، وغيرها من الحالات المشابهة، نمطاً مقلقاً من إدارة الشأن العام عبر الأدوات الأمنية، وتكريس مناخ يخنق الحريات ويقوض الثقة بين المواطن والسلطة.
فبدلاً من فتح المجال أمام نقاش وطني واسع حول القضايا الدستورية والسياسية المصيرية، تختار السلطة طريق الاعتقال وتلفيق التهم، ما يضع علامات استفهام كبرى حول مستقبل الحريات العامة وسيادة القانون في الأراضي الفلسطينية.
وفي ظل هذا الواقع، تبدو الحاجة ملحّة لإعادة النظر في النهج الأمني المتبع، واحترام الحق في التعبير والنقد، بوصفه شرطاً أساسياً لأي نظام سياسي يدّعي تمثيل شعبه، لا تهديداً يجب القضاء عليه عبر تهم فضفاضة وسجون مفتوحة.





