الإعلام المصري.. تطبيل فاضح لإسرائيل لتبرئتها من جريمة تجويع غزة

في لحظة إنسانية مفصلية تشهد فيها غزة واحدة من أبشع صور الإبادة الجماعية والتجويع الممنهج في العصر الحديث، تظهر آلة الإعلام المصري، الرسمي منه والخاص، في مشهد صادم من الانحياز المفضوح للاحتلال الإسرائيلي، وتواطؤ غير مسبوق في محاولة تبرئته من جريمة تجويع مليوني إنسان.
فما كان يُفترض أن يكون منبرًا للتضامن والضغط لرفع الحصار عن غزة، تحول إلى أداة دعائية لتجميل صورة الاحتلال، بل وتحميل الضحية مسؤولية مأساتها.
تطبيل إعلامي فاضح تحت رعاية رسمية
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، سعت وسائل الإعلام المصرية الكبرى – سواء تلك التابعة مباشرة للدولة أو المدعومة منها – إلى رسم صورة مقلوبة للواقع.
فجعلت من حركة حماس وفصائل المقاومة “المذنب الأوحد”، واعتبرت المعاناة الإنسانية في غزة نتيجة مباشرة لما تسميه “تسلط الفصائل”، وليس نتيجة الحصار الإسرائيلي – المصري الخانق المفروض على القطاع منذ أكثر من 17 عامًا.
اللافت أن هذا الخطاب لم يعد مجرد اجتهادات فردية لبعض الإعلاميين، بل بات جزءًا من حملة موجهة تتقاطع فيها الأجندة السياسية المصرية الرسمية مع مصالح تل أبيب، وتُستخدم فيها أدوات “التحليل السياسي” لتزييف الحقائق وطمس مسؤولية الاحتلال.
الإعلاميون.. أبواق صاخبة للمحتل
برزت خلال الحرب أسماء إعلاميين مصريين معروفين بارتباطهم بمؤسسات الدولة ومراكز القرار، ممن اتخذوا مواقف معادية صريحة لغزة، بل ومبرّرة للعدوان الإسرائيلي. من أبرز هؤلاء:
إبراهيم عيسى، الذي وصف المقاومة بأنها “مشروع موت”، وقلّل من المجازر اليومية التي يتعرض لها المدنيون، مركزًا هجومه على “التطرف الإسلامي” وكأن القضية في غزة شأن داخلي بعيد عن الاحتلال.
أحمد موسى، الذي كرر مرارًا في برامجه أن دولة الاحتلال الإسرائيلي “تحارب من أجل أمنها”، متجاهلًا عشرات آلاف الشهداء من الأطفال والنساء الذين قضوا جوعًا أو قصفًا.
نشأت الديهي، الذي ذهب إلى أبعد من ذلك حين اتهم سكان غزة بأنهم “رهائن بيد حماس”، محاولًا تصوير الاحتلال كـ”طرف خارجي غير معني”، رغم مسؤولياته القانونية والأخلاقية بوصفه قوة محتلة.
عمرو أديب، الإعلامي الأبرز في قنوات “أم بي سي مصر”، والذي بدا في خطاباته منحازًا بالكامل للرواية الإسرائيلية، مستخدمًا تعبيرات مثل “الطرفين في الحرب”، و”حماس تفتعل الأزمة” و”المعبر مفتوح”، بينما تشير الوقائع إلى أن آلاف الشاحنات الإنسانية ممنوعة من دخول القطاع عبر معبر رفح، الخاضع للسيطرة المصرية.
خطاب موجه لتبييض الدور المصري
إلى جانب تبرئة الاحتلال، تهدف الحملة الإعلامية المصرية إلى تبرئة القاهرة من مسؤولياتها المباشرة في استمرار الحصار.
ففي الوقت الذي تزايد فيه الغضب الشعبي والعربي والدولي من تواطؤ النظام المصري في منع دخول المساعدات الإنسانية عبر معبر رفح، برز الإعلام المصري كخط الدفاع الأول عن الموقف الرسمي، عبر بث أخبار كاذبة حول “سلاسة الإمداد”، أو “عرقلة حماس لوصول المساعدات”، أو “رفض الفصائل تنسيق دخول الشاحنات”.
هذه السردية المقصودة تهدف إلى تحويل الأنظار عن الحقيقة الثابتة: أن مصر، بحكم موقعها الجغرافي وامتلاكها معبر رفح، قادرة على اتخاذ خطوات حاسمة لفك الحصار، لكنها اختارت الاصطفاف مع الشريك الإسرائيلي في فرض خنق جماعي على سكان غزة.
حرب الإبادة تفضح الاصطفاف الإعلامي
لم تعد الحرب مجرد سياق عسكري، بل أظهرت حجم الانحياز الإعلامي المصري الفجّ، وكشفت زيف شعارات طالما رددها الإعلام الرسمي عن “دعم القضية الفلسطينية”.
فحين يتحدث مراسلو الأمم المتحدة عن أطفال يموتون بسبب نقص الغذاء، ويخرج مسؤول برنامج الأغذية العالمي ليؤكد أن غزة تواجه أسوأ أزمة جوع في العالم، لا تجد في الإعلام المصري من ينقل هذه الأصوات، بل تجد من يشكك بها.
وحين تُقصف المدارس والمستشفيات، ويموت الأطفال على أبواب الأفران، تجد من يقول إن “حماس تخزن الطعام”، أو أن “إسرائيل تلتزم بالقانون الدولي”! هكذا ببساطة، تُقلَب الحقائق، ويُطمس الألم الفلسطيني خلف أبواق لا تملك سوى ترديد ما يُطلب منها.
تسويق دولة الاحتلال كـ”شريك سلام”
جزء كبير من الخطاب الإعلامي المصري اليوم يقوم على فكرة تسويق الاحتلال الإسرائيلي كشريك قابل للتعاون الإقليمي، وليس كقوة احتلال.
ويتقاطع هذا مع الطموحات الاقتصادية للسلطة المصرية في مشاريع شرق المتوسط، والتطبيع الإقليمي، وصفقات الغاز، وحتى التعاون الأمني.
هنا يتحول الإعلام إلى أداة “ترويض شعبي”، تحاول تغيير وجدان المصريين تجاه دولة الاحتلال، وإعادة تشكيل الوعي العربي من جديد، بحيث يصبح الفلسطيني، لا الإسرائيلي، هو “العدو المشترك”.
المطلوب من القاهرة لا يزال مؤجلاً
رغم كل هذا التجميل الإعلامي، تبقى الحقائق صلبة. فالموقف المصري الرسمي لم يقدّم أي خطوات جادة لفك الحصار عن غزة، أو على الأقل لتيسير تدفق المساعدات الإنسانية.
لا تزال الشاحنات تنتظر الإذن المصري، ولا يزال المرضى يُمنعون من السفر، ولا تزال القاهرة ترفض حتى فتح معبر رفح بشكل دائم ودون شروط سياسية.
وأي محاولة للتنصل من هذه المسؤوليات، سواء إعلاميًا أو سياسيًا، لن تلغي أن مصر شريك فعلي – بصمتها أو تقييدها – في جريمة تجويع جماعي ترتقي لجرائم الحرب.