تحليلات واراء

السلطة تحفظ التنسيق الأمني رغم استنزاف صلاحياتها وسيادة الضفة

بالرغم من فقدان السلطة الفلسطينية لأغلب نفوذها على الأرض وتوسع الاحتلال الإسرائيلي في عمق الضفة الغربية، تُصر قيادتها في رام الله على الحفاظ على فرمان التنسيق الأمني والمهادنة مع تل أبيب.

هذا التماسك يثير تساؤلات حول جدواه، وسط انهيار شبه كامل لصلاحياتها وتزايد استيطان يطغى على آخر ما تبقى من سيادتها.

خطّة استيطان ممنهجة

يرى الباحث السياسي د. عقل صلاح أن حكومة نتنياهو تقود منذ سنوات “خطة ممنهجة لتوسيع الاستيطان والاستيلاء على أكبر قدر من أراضي الضفة”، مرجحًا أن “الاحتلال سبق وسحب أغلب صلاحيات السلطة وهو لا يريد أي وجود فلسطيني جدي في الضفة الغربية”.

ويشير صلاح إلى أن الحكومة اليمينية المتطرفة تسابق الزمن، وتتبع مقاربة “الأمر الواقع” لفرض السيطرة على الأرض واستنزاف أي خيار سياسي بديل.

تتعقد الصورة أكثر مع إعلان بني غفير، وزير الأمن القومي، عن تعزيز المسلحين الاستيطانيين وتنظيم هجمات ضد الفلسطينيين تزامنًا مع عمليات هدم والمعارك اليومية، ما يضع السلطة أمام خيار التواطؤ الأمني المستمر أو الانكفاء الكامل.

تنسيق أمني فوق القانون والسياسة

إن مثل هذا الوضع يعكس حقيقة أن السلطة الفلسطينية أصبحت حلقة أمنية إضافية للاحتلال، تمارس مطاردة مقدمة من حكومة رام الله ضد المحتجين أو المعارضين، بدلاً من كونها جهة تمثل مصالح الشعب الفلسطيني.

وخير دليل على ذلك هو ما حدث في جنين، حيث تولت السلطة إدارة عمليات أمنية كثيفة، حاولت فيها القضاء على فصائل مسلحة، رغم أن هذا يتسبب في اشتعال إضافي في الداخل ويقوّض من شرعيتها الشعبية.

ويقول مراقبون إن تنسيق السلطة مع الاحتلال يندرج ضمن ما يُعرف بسياسة “الباب الدوار”، إذ تحجز السلطة منفذًا أمنيًا لخدمة دولة الاحتلال الإسرائيلي، وتقوم باحتجاز مطلوبين للعدالة الدولية، دون أن تلقى أي اعتراف سياسي أو حياد دولي يضمن لها استعادة الأرض أو الحقوق السياسية.

استنزاف الصلاحيات وتوسع الاستيطان

الإحصائيات والمؤسسات الدولية تؤكد أن Area C – حيث تمارس السلطة فعليًا سيطرة متواضعة، وتخضع للسلطات الإسرائيلية – تشهد توسعًا سكانيًا استيطانيًا مزمنًا يُعطل الحياة الفلسطينية بأشكال شتى:

يمنع المستوطنون بناء المنازل الفلسطينية من خلال تقليل تصاريح البناء إلى أقل من 6% من الإجمالي.

تم الإعلان في آخر قرار عن بناء 22 مستوطنة جديدة، ما يزيد من عدد المستوطنين في الضفة إلى نحو 750 ألف، بينما تحظر أي تطوير فلسطيني جديد.

هذا التوسع لا يكتفي بردم التناقضات الجغرافية فحسب، بل يهدف إلى فرض وقائع ديموغرافية واقتصادية وسياسية تقضي على حلّ الدولتين عمليًا، وتمنح الاحتلال زمام السيطرة المطلقة على الأرض دون مقابل سياسي.

هشاشة الشرعية الشعبية

في مواجهة ذلك، ترى الرأي العام الفلسطيني أن التنسيق الأمني لم يعد وسيلة حماية، بل عقبة أمام المقاومة الشعبية، وصندوق إبراء للفساد الداخلي الذي كان أبرز تجليات عباس و”فتح”.

ويقول مراقبون إن السلطة أضحت “سلطة مرتزقة”، تربي عناصرها على التنسيق مقابل مزايا متضائلة، وتعجز عن توفير الخدمات الأساسية، فيما يواصل الاحتلال جهوزيته العسكرية وتوسعاته الاستيطانية.

تصاعد العنف الاستيطاني والتواطؤ الرسمي

يُضاف إلى ذلك تصاعد العنف الاستيطاني، المدعوم ضمنيًا من الأجهزة الإسرائيلية الرسمية.

ويؤكد تقرير لمجموعة Crisis Group أن العنف الاستيطاني تم تعزيزه من خلال انسجام غير معلن مع الجيش، وأن العمليات الأخيرة أوصلت عدد الضحايا إلى أكثر من 545 فلسطينيًا بين شهري أكتوبر 2023 ومارس 2025، نتيجة اعتداءات المستوطنين وبحث الاحتلال عن تفريغ قرى متعاطفة من السكان.

ويرى باحثون أن هذا “العنف المنظم” لا يهدف فقط إلى ترهيب، وإنما وراءه استراتيجية رسمية لتفريغ الأرياف الفلسطينية، وهو ما ينسجم مع خطة استيلاء تدريجي على الأراضي وضم مضمر للضفة تحت سقف يهودي وفقًا لحكومة “اليمين”.

هل يستيقظ المد الفلسطيني؟

رغم التراجع السياسي، يؤكد د. صلاح أن “الشعب الفلسطيني لن يستكين أو يستسلم”، وأن موجة احتجاج قد تتشكل قريبًا، مدفوعة بالانهيار الأمني ويأس الناس من الحل السياسي والتسوية.

وتقول تقارير ميدانية في الضفة إن عددًا من الأحياء بدأت تتحول شبه إلى نقاط مقاومة ضد التنسيق الأمني، وأن الشباب بدأوا في اجتماعات تحضّر لإجراءات مدنية واعتصامات سلمية ضد السلطة والاحتلال معًا.

ولتلخيص الموقف: السلطة ترضخ للأسوأ أمنياً، وتبقي على تنسيقها مع الاحتلال، دون تقدّم سياسي أو استرجاع لسيادة الضفة، وتواجه داخليًا الغضب والنفور الشعبي.

أما الطرف الآخر، الاحتلال وحكومته المتطرفون، فهم يواصلون بناء واقع الاحتلال المؤبد، من خلال توسّع استيطاني، إضعاف السلطة، وإعادة رسم الجغرافيا بفعل الأمر الواقع.

وأمام هذه المسارات المتشابكة، يبقى الفاعل الأساسي هو الشعب الفلسطيني، الذي إما سيتأقلم مع واقع جديد، أو يبدأ معركة مدنية وجماهيرية لإعادة الاعتبار للسلطة، أو تأسيس بديل يمكّنه من استرداد حقوقه السياسية. الشرط الرئيسي هو فك الطوق الأمني والعقلي الذي خنق تفكير السلطة وانهزامها أمام المشروع الاستيطاني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى