تحليلات واراء

مؤسسة غزة الإنسانية: الوجه الناعم لإخفاء الإبادة الجماعية في غزة

في خضم الدمار الشامل الذي تشهده غزة نتيجة الحرب الإسرائيلية المستمرة، تبرز “مؤسسة غزة الإنسانية” (GHF) كمظهر جديد لسياسة إسرائيلية ممنهجة توظف الغطاء الإنساني لتجميل جرائم الإبادة الجماعية وإضفاء شرعية زائفة على العنف المستمر.

ويؤكد مراقبون على أن ما يُسوّق دوليًا كمبادرة إنسانية مشتركة بين تل أبيب وواشنطن، ليس سوى أداة دعائية لتشويه القانون الإنساني الدولي، وتفريغه من محتواه لحساب منظومة استعمارية توسعية.

ظهور هذه المؤسسة ترافق مع اجتياح بري جديد في 16 مايو 2025، حمل اسم “عملية عربات جدعون”، والذي اعتبره مراقبون المرحلة الأخيرة من مشروع إبادة جماعية موجه لإعادة هندسة غزة ديمغرافيًا وجغرافيًا.

في هذا التوقيت، كانت التحذيرات الأممية تزداد قتامة، إذ أعلن التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي أن واحداً من كل خمسة فلسطينيين يواجه خطر المجاعة، وسط تقديرات بوفاة ما يصل إلى 14 ألف رضيع بسبب الحصار المشدد.

في هذا السياق الكارثي، تحوّلت المؤسسة الإنسانية الجديدة إلى أداة دعائية لتبييض صورة العدوان، حيث ساهمت وسائل الإعلام الغربية في إضفاء طابع “نقاشي” على المبادرة، بدلاً من تسليط الضوء على المجازر والانهيار الإنساني.

هكذا، وجدت دولة الاحتلال في GHF “ورقة توت” تغطي بها سياسات التهجير والتجويع، فيما صممت هذه المبادرة لتوزيع مساعدات مشروطة بالنزوح من مناطق إلى أخرى داخل القطاع.

ومنذ اليوم الأول لعمل المؤسسة، ظهرت حقيقتها الصارخة: مراكز توزيع تابعة للجيش الإسرائيلي، طوابير مذلة من المدنيين المحاصرين، إطلاق نار على الحشود عند فقدان السيطرة، وسقوط ضحايا، في مشهد يُعيد إلى الأذهان مشهد “مجزرة الدقيق” في فبراير 2024، حيث استشهد أكثر من 100 فلسطيني أثناء محاولتهم الحصول على الطحين. هذه الممارسات ليست استثناءً بل نهجًا متكررًا.

المبادرة الإسرائيلية، بالتعاون مع واشنطن، أعادت تدوير نموذج معسكرات الاعتقال الاستعمارية: مناطق مُسيطر عليها عسكريًا، يُنقل إليها السكان قسرًا، ويتلقون فيها الحد الأدنى من المساعدات مقابل التنازل عن أماكن إقامتهم الأصلية. وقد سبق أن جربت إسرائيل نموذج “الفقاعات الإنسانية” في يناير 2024، لكنه فشل بعد انكشاف طبيعته التحايلية.

التكامل مع الاحتلال

المؤسسة الجديدة، رغم ادعائها الحياد، تعمل بتكامل كامل مع الجيش الإسرائيلي والمقاولين الأمنيين، وتفتح المجال لاستخدام مواقع المساعدات كغطاء لعمليات عسكرية.

في يونيو 2024، استخدمت دولة الاحتلال “الرصيف العائم” الذي أنشأته واشنطن قبالة غزة، ليس فقط لنقل الإمدادات بل لتنفيذ عملية استعادة أسرى، أدت لاستشهاد أكثر من 200 فلسطيني، في مثال صارخ على تسييس و”عسكرة” المساعدات.

وتزداد المخاوف بعد إدخال أدوات رقمية لتقييد وصول السكان للمساعدات، عبر ربطها بأنظمة التعرف على الوجه وإرسال رسائل نصية مشروطة للفلسطينيين، تُحدد من يُسمح له بتلقي المعونة.

إذ أن هذا النظام الرقابي لا يُمكن فصله عن النزعة الأمنية الإسرائيلية المتغلغلة في كل أوجه التعامل مع السكان الفلسطينيين، ويعيد إنتاج النموذج نفسه المستخدم في الضفة الغربية حيث المراقبة والتحكم جزء من بنية الاحتلال.

وتبرر دولة الاحتلال هذه الإجراءات بأنها تهدف لمنع “استغلال المقاومة للمساعدات”، في خطاب يتكرر دون تقديم أي دليل، في وقت تواصل فيه تقليص نطاق الدعم الدولي عبر تحويل المساعدات إلى أدوات ضغط وشروط سياسية.

حتى مسؤولو الأمم المتحدة باتوا يعبرون عن رفضهم. فقد وصف توم فليتشر، وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية، هذه الممارسات بأنها “غطاء لمزيد من التهجير والعنف”، بينما استقال جيك وود من صندوق الأمم المتحدة للسكان احتجاجاً على خطط المؤسسة.

الطرد كحل إنساني

الأخطر من كل ذلك أن هذه العمليات تجري وسط سردية إسرائيلية رسمية تعتبر الطرد الجماعي “حلاً إنسانيًا”، كما صرح بذلك وزراء في حكومة نتنياهو من بينهم بتسلئيل سموتريتش، في تماهٍ واضح بين العقيدة الصهيونية الدينية والسياسات الإنسانية الزائفة.

هكذا، يظهر ما يمكن تسميته بـ”الإبادة الجماعية الإنسانية” كمفهوم جديد في السياسة الإسرائيلية، حيث يُعاد تشكيل أدوات القانون الدولي – مثل المناطق الآمنة والممرات الإنسانية – لتصبح مبررات للعنف الإبادي والطرد الجماعي. ويتم ذلك بالتعاون مع أطراف دولية، بينها منظمات إغاثة وشركات أمنية خاصة، الأمر الذي يهدد بإضفاء شرعية قاتلة على مشاريع تهجير قسري طويلة الأمد.

وإلى الآن، ما تزال غالبية المنظمات الدولية العاملة في غزة ترفض التعاون مع GHF، في موقف أخلاقي يحظى بالتقدير. لكن الكارثة المستمرة تتطلب إعادة تقييم شاملة لدور القطاع الإنساني نفسه، الذي لطالما عانى من التواطؤ مع قوى الهيمنة تحت ذريعة “الحياد”.

في مواجهة هذه الهندسة الجديدة للعنف الإنساني، يظل الخيار الوحيد للمجتمع الدولي والمنظمات الحرة هو تبني تضامن مناهض للاستعمار، يرفض استخدام الإغاثة كغطاء للإبادة، ويعيد التأكيد على الحقوق غير القابلة للتصرف للفلسطينيين، وفي مقدمتها حقهم في العودة، وحقهم في تقرير المصير بعيدًا عن رقابة البنادق وشروط المساعدات المُسيّسة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى