تحليلات واراء

تطبيع سوريا المحتمل تواطؤ مفضوح في الإبادة الجماعية الإسرائيلية

بينما تمتلئ عناوين الأخبار بتقارير عن اتفاق التطبيع المحتمل بين دمشق وتل أبيب، يبدو أن القيادة السورية الحالية مستعدة لارتكاب ما لا يمكن وصفه إلا بخيانة تاريخية لروح الأمة والقضية الفلسطينية.

فما يجري ليس مجرد تحول في السياسة الخارجية، بل هو تواطؤ في جريمة إبادة جماعية مكشوفة ضد شعب محاصر يُذبح في غزة على مرأى من العالم.

تحولات جذرية في الموقف السوري

طوال عقود، كانت سوريا تعتبر فلسطين قضيتها المركزية، وكانت دمشق مسرحًا لدعم حركات المقاومة المسلحة ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي.

لكن مع تولي الرئيس السوري أحمد الشرع السلطة، تغيّر المشهد كليًا. لم يعد التواصل مع دولة الاحتلال خطًا أحمر، بل بات خيارًا سياسيًا تجري مناقشته علنًا.

اعترف الشرع صراحة بأن حكومته تتفاوض مع الإسرائيليين حول قضايا “أمنية”، فيما كشف مسؤولون إسرائيليون أن المحادثات بلغت مراحل متقدمة وتشمل خطوات تطبيع كاملة.

وأكدت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية أن الاتفاق المطروح يقتضي اعترافًا رسميًا بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان المحتلة.

وفي عهد بشار الأسد، كان مجرد الاتصال مع الإسرائيليين كفيلًا بتوجيه تهمة الخيانة العظمى والحكم بالإعدام. اليوم، تُفتح أبواب دمشق للصحفيين الإسرائيليين ليصوروا أفلامًا وثائقية عن قواعد عسكرية مهجورة ومكاتب إيرانية أُخليت، في مشهد يعكس التحول الكارثي في توجه النظام.

تواطؤ صامت في لحظة الإبادة

التطبيع في هذه اللحظة تحديدًا ليس صدفة؛ فإسرائيل غارقة حتى أذنيها في حرب إبادة متواصلة ضد الفلسطينيين في غزة. عشرات الآلاف قُتلوا، غالبهم مدنيون، بينما العالم يكتفي ببيانات التنديد العقيمة.

والمثير للسخرية أن القيادة السورية الجديدة، التي تدّعي عداءها لإيران باعتبارها “مؤامرة شيعية”، تصطف الآن موضوعيًا مع دولة الاحتلال ضد شعب سني عربي يتعرض للإبادة.

حين قصفت دولة الاحتلال مواقع إيرانية داخل الأراضي السورية، التزمت دمشق الصمت. وحين ردت طهران على قاعدة أمريكية في قطر، سارعت دمشق إلى الإدانة.

ويؤكد مراقبون أن الصمت على قتل الفلسطينيين، بل المساهمة العملية فيه عبر تسهيل مرور الطائرات الإسرائيلية، هو تواطؤ بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

خطر الاعتراف بشرعية الاحتلال

لا يمكن التقليل من أهمية الخطوة التي يناقشها النظام السوري الجديد: الاعتراف بسيادة دولة الاحتلال على الجولان المحتل، وهو ما سيوجه ضربة استراتيجية للأمة العربية كلها.

قبل 2011، كانت سوريا – رغم كل مشكلاتها – تحتفظ بهامش سيادة وتوازن إقليمي، وكانت تشكل عقبة أمام الهيمنة الإسرائيلية الكاملة على المنطقة. أما اليوم، فيبدو أن دمشق مستعدة لإضفاء شرعية تاريخية على الاحتلال مقابل وعود فارغة بـ”التعافي الاقتصادي”.

لكن التجارب ماثلة للعيان. الأردن ومصر اللتان سبقتا دمشق إلى اتفاقيات السلام لا تزالان غارقتين في أزمات اقتصادية طاحنة. السودان الذي هرول للتطبيع أُغرق بعد رفع العقوبات في حرب أهلية مدمرة.

فمن يظن أن دولة الاحتلال والغرب سيمنحان سوريا الاستقرار والازدهار بعد التطبيع، يتجاهل حقيقة أن الدولة العبرية لا ترى في أي شريك عربي سوى وسيلة لتكريس الهيمنة وتقويض القضية الفلسطينية.

سحق الداخل السوري

خطورة المشروع لا تنحصر في السياسة الخارجية، بل تشمل الداخل السوري نفسه.

في الأشهر الماضية، شنّت سلطات أحمد الشرع حملات اعتقال ضد قادة فلسطينيين مقيمين في سوريا وضد جمعيات الإغاثة التي كانت تجمع التبرعات لغزة. وحتى شخصيات حزب البعث التي اعتادت المجاهرة بخطاب مقاوم تعرضت للتهميش والإقصاء.

وفي الجنوب السوري، تحولت أجهزة الأمن الجديدة إلى أداة لتجريد الأهالي من السلاح ومنع أي تحركات ضد الاحتلال الإسرائيلي في الجولان.

إن النظام الذي يسحق آخر بقايا التعبير الوطني في الداخل لن يتوانى عن رهن مستقبل سوريا وموقعها التاريخي مقابل رضى واشنطن وتل أبيب.

تضليل الرأي العام بشعارات زائفة

يقول أنصار التطبيع إن الشعب السوري “تعب ويريد إنهاء كل الصراعات”، وكأن عقد اتفاق مع دولة الاحتلال سيوفر الكهرباء والمياه ويفتح فرص العمل السحرية.

لكن ما تجنبوا قوله هو أن التطبيع سيجعل سوريا ملزمة بخدمة المشروع الإسرائيلي في المنطقة، بما في ذلك التضييق على أي دعم للمقاومة الفلسطينية أو اللبنانية.

الذين يتحدثون عن “إنقاذ الاقتصاد” نسوا أن سوريا قبل 2011 كانت دولة شبه مستقرة ذات اقتصاد مقبول وجامعات محترمة وصناعة سياحية ناشئة، رغم كل القيود. وكل ذلك تحقق بدون الحاجة للتطبيع، بل في ظل موقف سياسي مبدئي يرفض التنازل عن الجولان ويدعم الفلسطينيين.

سياق أكبر من سوريا وحدها

ما يحدث في دمشق ليس معزولًا عن السياق الأوسع. دولة الاحتلال والولايات المتحدة وحلفاؤهما سعوا لتفكيك كل دولة تحتفظ بقدر من السيادة وترفض الخضوع الكامل.

العراق وليبيا وسوريا واليمن، كلها تعرضت لحروب وتدخلات ممنهجة لتدمير جيوشها وتمزيق مجتمعاتها وفتح الطريق أمام الهيمنة الإسرائيلية.

أما اليوم، ففي الوقت الذي تُجهز فيه دولة الاحتلال على ما تبقى من غزة وتقصف المدنيين بلا هوادة، تريد أن تختتم هذه الحقبة باتفاقية تطبيع جديدة تمنحها الغطاء المعنوي والسياسي.

وصمة عار لا تُمحى

إذا وقعت سوريا اتفاقية تعترف فيها بسيادة الاحتلال وتشرعن الجرائم في غزة، فستكون قد فقدت آخر ذرائعها للبقاء كدولة ذات شرعية قومية.

وإن التواطؤ مع دولة الاحتلال في هذه اللحظة تحديدًا هو تواطؤ في إبادة جماعية تجري على الهواء مباشرة.

سيكتب التاريخ أن دمشق، التي كانت يومًا قلب العروبة النابض، سلّمت راية فلسطين طوعًا، وباعت روح الأمة بثمن بخس. ولن يُجدي أي تبرير ولا أي خطاب عن “السلام أو الاستقرار” حين تُسأل الأجيال المقبلة: أين كنتم عندما كانت غزة تُحرق؟.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى