تحليلات واراء

سلاح المقاومة وتجارب التاريخ… غزة بين شبح بيروت ومصير صبرا وشاتيلا

في خضم الحديث المتصاعد دولياً وإقليمياً عن ضرورة “وقف الحرب” في غزة و”تجنيب المدنيين المزيد من المعاناة”، تُطرح دعوات متزايدة لـ”تسليم سلاح المقاومة” مقابل “تسوية سياسية شاملة”.

لكن الذاكرة الجمعية الفلسطينية والعربية، خصوصاً تلك التي تحمل ندوب الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، تعيد طرح سؤال ملحّ: هل يمكن الوثوق بوعود “السلام” بعد نزع سلاح المقاومة؟.

المشهد القديم يتكرر: بيروت 1982… غزة 2025؟

الصورة التي تصدرت الصحف اللبنانية في أغسطس 1982 – كما يظهر في الوثيقة المرفقة – تؤرخ لما سمي حينها بـ”نجاح المرحلة الأولى من انسحاب المقاتلين الفلسطينيين من بيروت برعاية أمريكية”.

وعلى إثر ذلك، تسلم الجيش اللبناني الذخائر التي تركتها المقاومة، وساد الخطاب الإعلامي نبرة “الطمأنة” و”الترتيب السياسي”.

لكن بعد أيام فقط، حدثت أبشع مجزرة في التاريخ الحديث: مجزرة صبرا وشاتيلا، التي راح ضحيتها ما لا يقل عن 3000 فلسطيني من المدنيين العزل، ذُبحوا بدم بارد في المخيمات بعد انسحاب المقاومة.

وقد ارتُكبت المجزرة تحت أنظار الاحتلال الإسرائيلي الذي حاصر المنطقة، وسهّل دخول الميليشيات الموالية له. تلك الدماء التي سالت بعد رفع الراية البيضاء لا تزال دليلاً تاريخيًا على ما يمكن أن يحدث حين يُجرد الشعب من أدوات دفاعه الذاتية.

هل تسليم السلاح في غزة يعني النهاية؟

اليوم، تُطرح “مبادرات دولية” تدعو إلى نزع سلاح الفصائل في غزة، أو على الأقل تحييده، مقابل وقف العمليات العسكرية الإسرائيلية وإدخال مساعدات وإعادة إعمار. هذه اللغة، رغم ما تبدو عليه من منطق، تخفي في طياتها وصفة لتكرار الكارثة.

فمن دون ضمانات حقيقية، ومن دون رادع عسكري يفرض الاحترام، سيبقى الشعب الفلسطيني عرضة للانتقام والتهجير والمجازر. نزع السلاح دون تحقيق استقلال سياسي حقيقي وسيادة فلسطينية على الأرض والحدود والمؤسسات، يُعد خيانة للتاريخ ولضحايا المجازر السابقة.

التجريد من السلاح.. ثم الإبادة

التجارب العالمية تؤكد أن نزع السلاح من أية مجموعة مستهدفة تاريخياً هو مقدمة حتمية للذبح الجماعي أو التصفية السياسية أو الطمس الثقافي. من رواندا إلى البوسنة، ومن العراق إلى فلسطين، تسليم السلاح لا يعني الأمان، بل يعني غالباً التجرد من الحق في الحياة.

ما حدث في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان بعد نزع السلاح يؤكد ذلك: الوعود الأمريكية بحماية المدنيين تبخرت، والجهات “الشرعية” التي تسلمت السلاح لم تحرك ساكناً عندما وقعت المجازر.

السياق الحالي في غزة: حصار فإبادة

اليوم، تشهد غزة حرب إبادة حقيقية، تجاوزت المجاعة والدمار إلى استهداف منهجي للمجتمع المدني. المدارس، المستشفيات، شبكات الكهرباء والمياه، الإعلام، وحتى الصحفيون – الكل مستهدف.

إذا تم الضغط على المقاومة لتسليم السلاح في ظل هذا المشهد، فمن الذي سيمنع ارتكاب مجازر جديدة بعد ذلك؟ من سيحمي السكان من ميليشيات الاحتلال ومن مخططات الطرد الجماعي أو التحويل القسري إلى سيناء أو رفح؟

العدو لا يتغير.. والسياسات تتكرر

الإعلام العبري يلمّح علانية إلى “تفكيك قدرة حماس” و”اجتثاث البنية التحتية للمقاومة”، بينما تسرب مراكز بحث إسرائيلية مقترحات لفصل غزة عن المشروع الوطني الفلسطيني و”إعادة تأهيلها تحت وصاية إقليمية”.

هذا الخطاب، إذا تُرجم على الأرض دون وجود مقاومة مسلحة تردع، فسيعني تحول غزة إلى منطقة خالية من السكان أو تحت حكم تابع بالكامل لإسرائيل. ومع غياب مقاومة منظمة، سيصبح المدنيون لقمة سائغة لأي سياسة قمع أو تطهير جماعي.

والخطير في دعوات نزع السلاح أنها تأتي أحياناً من أطراف فلسطينية رسمية تتحدث باسم “الشرعية”، في تكرار لتجربة 1982، حين وفرت منظمة التحرير غطاءً للانسحاب مقابل وعود لم تصمد أيامًا.

لكن ما لا يُدركه هؤلاء أن أي تفريط في أدوات الدفاع الفلسطيني – في ظل استمرار الاحتلال، وغياب السيادة، وتهالك المؤسسات – لا يُعتبر “تسوية”، بل انتحار جماعي وتواطؤ على تسليم الشعب لقمة سائغة للعدو.

من يسلم سلاحه يسلّم شعبه للذبح

المقاومة ليست خيارًا تكتيكيًا فقط، بل ضرورة وجودية في وجه عدو لا يحترم الحقوق ولا يفهم إلا منطق القوة. من يتحدث اليوم عن “السلام مقابل الاستسلام” عليه أن يقرأ جيدًا التاريخ، لا سيما صفحات 1982 السوداء.

غزة التي صمدت وحدها رغم المجاعة والقصف والنار، لا تحتاج إلى نصيحة بالتجرد من السلاح، بل إلى تحصين مقاومتها، وتحقيق شراكة وطنية حقيقية في مشروع التحرر، وضمانات دولية قابلة للتنفيذ، وليس وعودًا وهمية تتبخر عند أول مجزرة.

وإلا، فإن ما ينتظر غزة بعد تسليم السلاح قد لا يكون سوى نسخة محدثة من مجزرة صبرا وشاتيلا… ولكن على أرض غزة نفسها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى