تحليلات واراء

تلفزيون فلسطين الرسمي: منبر التحريض والاستثمار في معاناة غزة

عندما تأسس تلفزيون فلسطين الرسمي من ميزانية السلطة وبالتالي الشعب الفلسطيني كان يفترض أن يمثل النافذة الإعلامية الرسمية للكل الوطني الفلسطيني ويكون منبرًا يُعبّر عن تطلعات كل الشعب وحقوقه الوطنية.

لكن مع تصاعد حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، تكشفت بوضوح أزمة عميقة في توجهات هذا المنبر.

إذ تحول تدريجيًا من وسيلة إعلامية يُفترض أن توحّد الصف الوطني وتعبّر عن شعب يعاني تحت الاحتلال، إلى منصة تستثمر في معاناة غزة لأهداف سياسية ضيقة، وتحرض بانتظام ضد المقاومة التي تقود معركة الدفاع عن الفلسطينيين جميعًا.

لغة الانقسام بدلًا من الوحدة

في لحظةٍ تاريخيةٍ كان يفترض أن يرتفع فيها صوت الإعلام الرسمي الفلسطيني للدفاع عن حقوق الشعب وتعرية الاحتلال، اختار تلفزيون فلسطين لغة الانقسام والتخوين.

منذ الأيام الأولى للحرب، امتلأت نشراته وتقاريره بمصطلحات تنزع الشرعية عن المقاومة، وتختزلها في جماعات “تخوض مغامرة غير محسوبة”، وتحملها مسؤولية دمار القطاع ودماء أبنائه.

وبدلًا من استحضار التضحيات الجماعية لأهل غزة وصمودهم الأسطوري في وجه آلة التدمير الإسرائيلية، انشغل التلفزيون ببث خطاب يزرع الشكوك ويشجع على التذمر والانقسام الداخلي.

وقد ظهر ذلك في عشرات الفقرات التي حرصت على تكرار سردية السلطة عن أن المقاومة “تتاجر بدماء الشعب”، في حين تجاهلت كليًا الحديث عن الجرائم الإسرائيلية اليومية التي استهدفت الأطفال والنساء والمدارس والمستشفيات.

توجيه الأجندة لخدمة السلطة

هذا التوجه لا يمكن فصله عن أجندة سياسية واضحة لقيادة السلطة الفلسطينية في رام الله، التي تعتبر أن ضرب سمعة المقاومة واستغلال المأساة فرصة لإعادة فرض مشروعها السياسي المترهل.

إذ تسعى السلطة منذ سنوات إلى تكريس رواية مفادها أن “الواقعية السياسية” تقتضي التنسيق الأمني مع الاحتلال والرهان على التفاوض كسبيل وحيد، وأن المقاومة خيار عبثي لا يجلب إلا الدمار.

وهكذا، تحوّل تلفزيون فلسطين إلى الذراع الإعلامية التي تُسوّق لهذا الخطاب بشكل ممنهج. فمنذ بدء الحرب، عُرضت عشرات التقارير التي تكرر نفس الرسالة: غزة تدفع الثمن بسبب من يصفهم التلفزيون بـ”المسلحين”، بينما تظهر قيادة السلطة بمظهر “الجهة العاقلة” التي تحاول حماية الشعب.

ولا يحتاج المتابع إلى كثير من الجهد ليدرك أن هذا الخطاب لا يستهدف فقط المقاومة كفعل مقاوم، بل يحاول نزع الشرعية عن أي خيار يتجاوز حدود السلطة وأجندتها الضيقة.

استثمار المعاناة لأهداف رخيصة

لم يكتفِ تلفزيون فلسطين بتشويه صورة المقاومة، بل ذهب إلى حد استثمار معاناة الناس إعلاميًا لتحقيق مكاسب سياسية.

ففي أكثر من مناسبة، بث التلفزيون تقارير مركّزة عن الأوضاع الإنسانية المأساوية – انعدام الماء والغذاء والدواء – لكن دون ربط ذلك بمسؤولية الاحتلال أو حصاره الممتد لسنوات.

وبدلًا من الإضاءة على السياق الكامل للحرب، وظف هذه التغطية لصناعة حالة إحباط شعبي ضد المقاومة، وكأنها هي المسؤولة الوحيدة عن كل الكارثة.

وقد لاحظ كثير من المراقبين كيف أن التلفزيون الرسمي يلتقط شهادات مختارة من بعض المواطنين الساخطين – طبيعيًا – على تردي ظروفهم المعيشية، ثم يعيد تدويرها في نشراته كمادة اتهام جماعي للمقاومة، بينما لا يجد ذات الاهتمام بتوثيق مئات المجازر الإسرائيلية اليومية.

انحياز واضح ضد قطاع غزة

الأخطر أن هذا التوجه يأتي امتدادًا لسياسة إعلامية قديمة تنظر إلى غزة باعتبارها عبئًا أو حالة “خارجة عن الإجماع”، وليست جزءًا أصيلاً من الشعب الفلسطيني.

فحتى قبل الحرب، كان التلفزيون الرسمي يخصص مساحات واسعة للنيل من المقاومة والتقليل من شرعيتها الشعبية. وعندما انفجرت حرب الإبادة، ارتفع مستوى هذا الانحياز ليبلغ ذروة صادمة.

طوال شهور القصف الوحشي، لم يُظهر التلفزيون مشهدًا صادقًا يوحّد الفلسطينيين خلف صمود غزة، بل بدا كأنه يسعى إلى ترسيخ الانقسام وتحميل المقاومة كامل المسؤولية. وكأن القطاع المحاصر منذ 17 عامًا لا يستحق التضامن الوطني والاحتضان الجمعي.

انعدام المصداقية لدى الجمهور

نتيجة هذا الأداء، فقد تلفزيون فلسطين الرسمي جانبًا كبيرًا من مصداقيته لدى شريحة واسعة من الفلسطينيين داخل غزة وخارجها. إذ يشعر كثيرون أن هذا المنبر صار أقرب إلى صوت السلطة من أن يكون صوت شعب يعيش مأساة تاريخية.

في المقابل، يلجأ المواطنون إلى قنوات أخرى أو منصات مستقلة للحصول على تغطية حقيقية تعبر عن تضحياتهم.

وسبق أن أظهر استطلاع للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية في والمسحية في منتصف سبتمبر 2022 أنّ فضائية السلطة “تلفزيون فلسطين” قد حازت على نسبة مشاهدةٍ من الفلسطينيين بلغت 10% فقط رغم كل الإمكانيات التي تحظى بِها وتخدم السلطة وحركة فتح فقط

هذا الانحدار في الثقة له عواقب خطيرة على المدى البعيد، لأنه يزيد من أزمة الشرعية التي تواجهها السلطة ومؤسساتها الإعلامية. كما يعمّق حالة الانقسام بين الضفة وغزة، ويمنح الاحتلال فرصة للاستثمار في هذا الشرخ لمزيد من ضرب وحدة الشعب الفلسطيني.

غياب التعددية وتكميم الأصوات

إلى جانب خطاب التحريض، يواجه التلفزيون اتهامات دائمة بتكميم الأصوات المخالفة.

فلا يُسمح لأي وجه إعلامي أو سياسي مؤيد لخيار المقاومة بالظهور، ولا تفتح شاشته لمناقشة نقدية أو مهنية لخيارات السلطة. بل تحوّل إلى قناة دعائية أحادية، تكرر الرواية الرسمية بلا مساءلة أو توازن.

حتى في البرامج الحوارية، يجري انتقاء الضيوف بعناية لضمان انسجام المواقف مع الخط السياسي للقيادة. وبهذا، يُصادر التلفزيون تنوع الآراء الفلسطينية ويضيّق مساحة النقاش الحر، ما يكرس صورة سلبية عن دور الإعلام الرسمي.

الحاجة إلى إعلام وطني جامع

إن التجربة المأساوية الجارية في غزة أكدت حاجة الفلسطينيين إلى إعلام وطني صادق، يُنصف الضحايا ويواجه الاحتلال ويوحد صفوفهم.

أما إذا ظل تلفزيون فلسطين الرسمي رهينة الأجندات السياسية الضيقة، واستمر في التحريض على المقاومة واستثمار المعاناة، فسيفقد دوره الطبيعي كمنبر للشعب الفلسطيني كله.

إن إعادة الثقة بالإعلام الرسمي تبدأ بوقف خطاب التحريض، واستعادة التوازن، والالتزام بمبادئ المهنة التي تقتضي وضع الحقيقة أولًا، وليس خدمة مصلحة السلطة على حساب دماء الناس. وحتى يحدث ذلك، سيبقى كثيرون يرون أن هذا التلفزيون لا يتحدث باسمهم، ولا يمثل نضالهم، ولا يعكس وجعهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى