حرب كيّ الوعي في غزة.. معركة الاحتلال الأشد خطورة

منذ انطلاق العدوان الإسرائيلي على غزة قبل نحو عامين، تتكرر في بيانات “الكابينيت” الإسرائيلي وتصريحات بنيامين نتنياهو عبارة “نحن في مرحلة الحسم النهائي ضد حركة حماس والمقاومة الفلسطينية”.
غير أنّ هذا “الحسم” ظلّ معلقاً بين الوعود المتكررة والواقع الميداني الذي يكشف عجز الاحتلال عن تحقيق إنجاز عسكري حاسم. الجديد اليوم هو أن أبواق اليمين الإسرائيلي المتطرف باتت تعترف صراحة بأن “الحسم الأهم” ليس في الميدان العسكري بل في ميدان الوعي.
بهذا المعنى، تحوّل الوعي الفلسطيني إلى جبهة قتال حقيقية، حيث يسعى الاحتلال إلى كيّ الوعي الجمعي للفلسطينيين، ليدفعهم إلى رفض المقاومة والاستسلام لواقع الاحتلال، عبر حرب نفسية وفكرية قد تكون أكثر خطورة من حرب السلاح.
حرب الإبادة في غزة
يشير المستشار الاستراتيجي الإسرائيلي بوعز ليبرمان في مقال نشره على موقع “القناة 7” إلى أنّ غزة ليست ساحة معركة عسكرية فحسب، بل هي “ساحة معركة فكرية”.
إذ بالنسبة للاحتلال، فإن إنجاز حركة حماس لا يقاس فقط بقدرتها على إطلاق الصواريخ أو مواجهة الاجتياحات، بل بمجرد بقائها كرمز للمقاومة وترسيخها لنهج الصمود داخل المجتمع الفلسطيني.
ومن هنا ينبع التوجّه الإسرائيلي نحو استهداف هذا البعد الفكري والرمزي، ومحاولة “القضاء التام على فكرة حماس” عبر نزع الشرعية عنها وجعلها منبوذة في وعي الفلسطينيين أنفسهم.
ويكشف هذا الطرح أنّ الاحتلال لم يعد يراهن فقط على سحق القدرات العسكرية للمقاومة، بل على ضرب الثقة الشعبية بها، وهو ما يُظهر إدراكاً إسرائيلياً عميقاً بأنّ المعركة مع الفلسطينيين ليست معركة عتاد فحسب، وإنما معركة بقاء هوية ومشروع.
شبكات العملاء وبروباغندا “أفيخاي”
من أبرز أدوات الاحتلال في هذه الحرب النفسية والفكرية هي شبكات العملاء الإعلامية المرتبطة بما يُعرف بـ”شبكة أفيخاي” نسبة إلى المتحدث السابق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، الذي كرّس خطابه الدعائي الموجه للفلسطينيين والعرب.
إذ تعمل هذه الشبكة على إعادة إنتاج روايات الاحتلال وتغليفها بخطاب “نصيحة” أو “واقعية سياسية”، عبر شخصيات فلسطينية أو عربية تدّعي الحرص على “المصلحة الوطنية”، لكنها عملياً تقوم بترويج القبول بالاحتلال ونزع الشرعية عن المقاومة.
ومن خلال هذه الأصوات، يسعى الاحتلال إلى خلق انقسام داخلي، وإشاعة الشكوك حول جدوى المقاومة، والتشكيك في أخلاقيتها، وحتى تصويرها كسبب مباشر للدمار والمعاناة.
هؤلاء العملاء ليسوا مجرد ناقلين للرواية الإسرائيلية، بل هم أداة متقدمة في “الهندسة النفسية” للجمهور الفلسطيني، حيث يوظفون اللغة المحلية، والمفردات الثقافية، والخطاب الديني أحياناً، لتوجيه الرأي العام نحو التطبيع مع الاحتلال، أو على الأقل استسلام صامت لواقعه.
شبكة أفيخاي ويكيبيديا
في الساحة الميدانية، يعتمد الاحتلال سياسة العقاب الجماعي: القصف، الحصار، التدمير، وحرمان السكان من أبسط مقومات الحياة.
لكن هذه الأدوات العسكرية ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لخلق بيئة من اليأس، حيث يُراد للفلسطيني أن يستنتج أن المقاومة هي سبب معاناته، وأن الاستسلام قد يكون المخرج الوحيد.
وفي الساحة الفكرية، تعمل الدعاية الإسرائيلية على تكريس هذا الاستنتاج عبر قنوات متعددة: منصات التواصل الاجتماعي، بعض وسائل الإعلام الإقليمية، شبكات العملاء، وحتى الرسائل النصية المباشرة التي يرسلها جيش الاحتلال إلى هواتف سكان غزة. الهدف واحد: جعل الفلسطيني يقتنع بأن المقاومة عبثية، وأن الخضوع للاحتلال أقل كلفة من مواجهته.
فشل الحسم العسكري واستدعاء الوعي
إقرار الاحتلال بأهمية “الحسم على الوعي” يعكس فشلاً عسكرياً متكرراً.
فمنذ بداية حرب الإبادة على غزة عام 2023، قتل الجيش الإسرائيلي عشرات الآلاف، لكنه لم ينجح في كسر المقاومة أو القضاء على بنيتها العسكرية والسياسية. حتى مع اجتياحات واسعة وتدمير شامل، ظلّت المقاومة قادرة على البقاء، والرد، والتكيّف.
إزاء هذا الفشل، بدا أن الرهان على “كيّ الوعي” هو الخيار البديل: إذا كان لا يمكن القضاء على المقاومة عسكرياً، فليُقضَ عليها في وعي جمهورها.
غير أنّ هذا الرهان يواجه هو الآخر معضلة جوهرية: فالتجارب التاريخية للشعوب المحتلة تُظهر أن الوعي المقاوم يتجذّر كلما زادت وحشية الاحتلال، وأن محاولات كيّه قد تؤدي إلى نتائج عكسية بتعزيز روح التحدي والرفض.
وحتى اليوم، ظلّ الوعي الجمعي للفلسطينيين – رغم شدة المجازر والحصار – متمسكاً بخيار المقاومة.
فقد نجحت حماس وفصائل المقاومة الأخرى في تحويل مجرد البقاء إلى إنجاز سياسي ومعنوي. كما أن حجم التضحيات خلق شعوراً بأن التراجع أو الاستسلام سيجعل الدماء المهدورة بلا معنى.
ويتشكل الوعي الفلسطيني كذلك من تجربة ممتدة منذ أكثر من سبعة عقود من النكبة والتهجير والاحتلال. وفي كل مرة راهن الاحتلال على “نسيان” الفلسطيني لهويته أو استسلامه لليأس، أثبتت الوقائع عكس ذلك.
فمن انتفاضات الداخل إلى صمود غزة في الحروب المتكررة، كان الوعي المقاوم يتجدد بأشكال مختلفة، ويعيد إنتاج نفسه كأحد أقوى أسلحة الفلسطينيين.
وعليه فإن ما يجري اليوم يكشف أن الاحتلال انتقل من وهم “الحسم العسكري” إلى رهان “الحسم الفكري”. غير أنّ هذا الرهان يصطدم بجدار التجربة الفلسطينية التاريخية، حيث لم ينجح القمع ولا التدمير ولا الدعاية في إطفاء جذوة المقاومة.
وأخطر ما يواجهه الفلسطينيون اليوم ليس فقط صواريخ الاحتلال ولا حصاره، بل محاولاته المستمرة لتفكيك وعيهم الجمعي وتحويله إلى وعي مهزوم. غير أن الوعي المقاوم – كما أظهرت السنوات الماضية – يظل السلاح الأشد صلابة، وهو ما يجعل من معركة الوعي معركة المصير بالنسبة للشعب الفلسطيني.





