الخراب في غزة… مختبر إسرائيل المفتوح لاختبار الأسلحة وتعزيز مبيعاتها

منذ اليوم الأول لحرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، بدا جليًّا أن دولة الاحتلال لم تكن تخوض فقط حربًا على شعب أعزل، بل تدير في الوقت ذاته أكبر مختبر ميداني في العالم لاختبار أحدث ما أنتجته ترسانتها العسكرية من أسلحة ذكية وقنابل موجهة وطائرات بدون طيار، في سياق لا يخلو من التسويق والاستعراض أمام أعين المستوردين وشركات التسليح الدولية.
وقد صرح مدير عام وزارة الدفاع الإسرائيلية أمير بارام بشكل صريح بأن “الرقم غير المسبوق في صادرات الدفاع الإسرائيلية الذي تحقق خلال عام من الحرب يعكس التقدير العالمي المتزايد للقدرات التكنولوجية الإسرائيلية التي أثبتت جدواها”، مشيرًا إلى أن ما جرى في غزة أسهم مباشرة في ازدهار الصناعات الدفاعية الإسرائيلية.
مشاهد الدمار والإبادة: خلفية للترويج الحربي
أرقام وزارة الصحة الفلسطينية تشير إلى استشهاد أكثر من 55 ألف مواطنا في غزة منذ بداية الحرب، بينهم 16 ألف طفل و12 ألف امرأة، فضلًا عن أكثر من عشرة آلاف مفقود ما يزالون تحت الأنقاض.
هذه الحصيلة الدموية التي يعجز العقل عن استيعابها، تكشف الوجه الحقيقي لاستخدام القوة العسكرية المفرطة من قبل جيش الاحتلال، لكن الأدهى أنها تحولت إلى وقود لرواج الصناعة الدفاعية الإسرائيلية.
لم تقتصر ضربات الاحتلال على مناطق القتال أو استهداف الفصائل المسلحة، بل امتدت إلى كل مبنى يقف على قدمين متحديًا جبروت الاحتلال.
وقد تم تسوية الجامعات بالأرض، وأُحرقت المستشفيات، وضُربت الأفران، وتم استهداف محطات الكهرباء والماء، في خريطة منهجية للدمار الشامل. وتحوّلت الكثافة النارية العشوائية، بضربات محسوبة لتجنب تجاوز عتبة الغضب العالمي، إلى وسيلة تجريبية دقيقة لتقييم فعالية الأسلحة.
السلاح المجرب على “لحم الغزيين”
في هذا السياق، لا يمكن إغفال البعد التجاري والعسكري الذي تحوّل فيه الغزيون إلى “حقل تجارب” حيّ.
كل قذيفة تسقط، وكل طائرة مسيرة تُحلّق، وكل قنبلة ذكية تضرب هدفًا في حي مأهول بالسكان، تحمل معها بيانات يتم جمعها بعناية لإرسالها لاحقًا إلى مراكز البحث والتطوير وشركات السلاح التي تعمل بشكل لصيق مع وزارة الدفاع الإسرائيلية.
لاحقا يتم تحليل نتائج كل عملية قتالية لتطوير أداء السلاح، وتقديم أدلة عملية للمستوردين على كفاءته.
الرسالة واضحة: هذا السلاح أثبت فعاليته في ظروف حرب حقيقية ضد خصم غير متماثل، في بيئة حضرية مكتظة، وعلى أهداف متحركة وغير واضحة المعالم. هذا النوع من “الشهادات الحربية” هو ما تطلبه الدول التي تسعى لشراء سلاح مجرب وفاعل.
ارتفاع الصادرات العسكرية الإسرائيلية
الأرقام التي كشفت عنها وزارة الجيش الإسرائيلية تؤكد هذا الواقع. إذ حققت صادرات الأسلحة ارتفاعًا غير مسبوق خلال عام واحد فقط من الحرب، وهو ما لا يمكن فصله عن العمليات العسكرية الجارية في غزة.
وأشارت الوزارة إلى أن “الأنظمة الإسرائيلية كان لها صدى في جميع أنحاء الشرق الأوسط خلال العام الماضي”، مشيرة إلى أن الطلب المتزايد يعود إلى إثبات تلك الأنظمة لنجاعتها خلال الحرب.
من أبرز الزبائن الذين ازداد اهتمامهم بالسلاح الإسرائيلي دول “اتفاقيات أبراهام” — الإمارات والبحرين والمغرب — التي ارتفعت وارداتها أربعة أضعاف، لتشكّل نحو 7% من إجمالي صادرات الأسلحة الإسرائيلية.
كما واصلت الهند وأذربيجان احتلال مراكز متقدمة ضمن كبار المشترين، وسط سعي محموم من دول عدة للحصول على معدات أثبتت قدرتها في ساحة المعركة.
دور التطبيع
اللافت أن ارتفاع الصادرات الإسرائيلية لم يأتِ فقط نتيجة فعالية الأسلحة، بل ارتبط أيضًا بانفتاح سياسي مدفوع باتفاقيات التطبيع.
فالتقارب الرسمي بين تل أبيب وعواصم عربية فتح الباب أمام التعاون العسكري، ليس فقط عبر الصفقات، بل أيضًا من خلال التدريبات المشتركة، والتبادل الاستخباراتي، والتنسيق الدفاعي. فحيثما فشلت الدبلوماسية في إدانة المجازر الإسرائيلية، نجح المال والسلاح في توطيد العلاقات.
تبدو الصفقات العسكرية أحد أبرز المكاسب المباشرة لإسرائيل من هذه الاتفاقيات. فدول الخليج، وعلى رأسها الإمارات والبحرين، لم تكتفِ بالاستيراد، بل أبدت اهتمامًا بالدخول في شراكات تصنيع وإنتاج مشترك. وهكذا، لا تكتفي دولة الاحتلال بتصدير سلاحها، بل تسوّقه كشريك موثوق وفاعل، مدعوم بخبرة ميدانية مستمرة.
الفجوة العربية في التصنيع العسكري
ما يضاعف من حدة هذا الواقع هو أن معظم الدول العربية، رغم ما تملكه من موارد مالية هائلة، ما تزال في موقع المستورد والمستهلك للسلاح، دون أن تُحرز أي تقدم حقيقي في بناء صناعات دفاعية وطنية.
وحتى الدول التي حاولت، كالجزائر ومصر والسعودية، ما زالت في مراحل بدائية أو تعتمد على شراكات مع أطراف أجنبية تمنع عنها نقل التكنولوجيا الفعلي.
وبدلًا من أن تكون مأساة غزة لحظة يقظة قومية تستنهض الإرادة العربية لبناء قدراتها الذاتية، تحوّلت إلى سوق عرضٍ لإسرائيل على حساب دماء الفلسطينيين.
وهكذا، بينما تُدك المدن، وتُباد العائلات، وتُطمس المعالم، تُوقّع العقود وتُشحن الأسلحة، وتُعقد المؤتمرات العسكرية، ويستمر مسلسل التواطؤ السياسي والعسكري مع الاحتلال.
نصر تكنولوجي… وهزيمة أخلاقية
إذا كانت دولة الاحتلال قد حققت نصرًا تكنولوجيًا في حرب غزة، فإن العالم خسر بوصلته الأخلاقية. لم يكن هناك تحقيق دولي واحد جاد في الاستخدام المفرط للقوة، أو في استهداف المدنيين، أو في القصف المتعمد للمرافق الحيوية.
وفي المقابل، تلقّت الصناعات العسكرية الإسرائيلية شهادة جودة دموية، عززت مكانتها كجهة مصدرة للسلاح المجرب.
لكن هذا النصر الظاهري لا يلغي حقيقة أساسية: كل سلاح تم تسويقه على جثة طفل غزي، وكل صاروخ أثبت فعاليته بتدمير مستشفى، وكل طائرة مسيرة جُربت على رؤوس المدنيين، يحمل معه وصمة عار أخلاقية لا تمحوها الأرباح. فالتاريخ لا يُكتَب فقط بالأرقام، بل بالدماء — والدم الفلسطيني كان وما يزال أرخص عملة في سوق السلاح العالمي.