خطاب شبكة أفيخاي عقب عملية الأردن: تبييض للاحتلال وتشويه للمقاومة

في أعقاب عملية معبر الكرامة (جسر اللنبي/الملك حسين) بين فلسطين والأردن، لم يتأخر خطاب شبكة أفيخاي – الذراع الدعائي للجيش الإسرائيلي – في استثمار الحدث للهجوم على المقاومة الفلسطينية وتبرير العقوبات الجماعية التي يفرضها الاحتلال.
وجاءت تصريحات مثل ما قاله المدعو أيمن خالد: “تم إيقاف إدخال المساعدات إلى غزة عن طريق الأردن بسبب عملية جسر اللنبي، دائما هناك من يصنع كارثة للفلسطينيين بحجة المقاومة”، أو ما كتبه هاشم العامر: “أي عملية يتم تنفيذها ضد (إسرائيل) يدفع ثمنها أهل غزة”، كأمثلة نموذجية على طريقة ترويج السردية الإسرائيلية: تحميل الضحية مسؤولية معاناتها، وتبرئة الجلاد من جرائمه.
واللافت أن هذا الخطاب يتجاهل الحقيقة الجوهرية: أن الاحتلال الإسرائيلي هو أصل كل المعاناة الإنسانية والاقتصادية والسياسية التي يعيشها الفلسطينيون، من غزة المحاصرة منذ أكثر من 18 عامًا إلى الضفة الغربية الممزقة بالحواجز والمستوطنات.
شبكة أفيخاي ويكيبيديا
حين يتم إيقاف المساعدات الإنسانية، لا يعود السبب إلى عملية فردية أو جماعية ضد الاحتلال، بل إلى خيار سياسي إسرائيلي ممنهج يقوم على استخدام الغذاء والدواء كسلاح في الحرب.
فالاحتلال يُعاقب المدنيين بشكل جماعي – وهو ما يرقى إلى جريمة حرب بموجب القانون الدولي – ثم يسعى عبر شبكاته الإعلامية إلى إقناع الرأي العام العربي والدولي أن “المقاومة هي السبب”، وبالتالي فإن خطاب شبكة أفيخاي يقوم على قلب للواقع وتحوير متعمد للمسؤوليات.
وما تطرحه شبكة أفيخاي ليس مجرد رأي؛ بل هو إضفاء شرعية دعائية على العقوبات الجماعية التي يفرضها الاحتلال بعد كل عملية مقاومة. والرسالة الأساسية التي يحاول الخطاب الإسرائيلي تسويقها هي: “إذا قاوم الفلسطينيون، فسيجوعون. وإذا صمتوا، قد ينالون بعض الفتات”.
لكن هذه المعادلة هي في حقيقتها ابتزاز سياسي وإنساني يضع 2.2 مليون إنسان في غزة تحت رحمة حصار خانق، ويحوّل أبسط حقوق الحياة – من الكهرباء إلى العلاج – إلى أدوات ضغط لتحقيق أهداف عسكرية. أي أن الاحتلال نفسه يعترف ضمنيًا بأنه يستخدم المدنيين كرهائن جماعيين، بينما يلقي باللوم على المقاومة.
مهاجمة المقاومة وتشويه صورتها
المثير أن شبكة أفيخاي لا تكتفي بتبرئة الاحتلال، بل تذهب أبعد من ذلك إلى تشويه شرعية المقاومة الفلسطينية، التي يكفلها القانون الدولي لكل شعب واقع تحت الاحتلال.
فالحديث عن أن “أي عملية ضد (إسرائيل) يدفع ثمنها أهل غزة” هو تجاهل متعمد لجوهر الصراع: أن الاحتلال هو الذي بدأ القتل والحصار، وأن المقاومة رد فعل طبيعي وشرعي على عقود من العدوان.
الأخطر أن هذا الخطاب يُسَوِّق بين الجمهور العربي فكرة أن المقاومة عبثية، وأنها السبب في الأزمات الإنسانية، ليعيد إنتاج مقولة الاحتلال الكلاسيكية: “لولا مقاومتكم لَعِشتم بسلام”. وهو منطق استعماري بحت، إذ يُجرّم الدفاع عن النفس ويُقدِّس الخضوع.
ومن خلال هذا الخطاب، يحاول الاحتلال الظهور بمظهر “المتضرر البريء” الذي لا يفعل سوى الرد على “استفزازات” الفلسطينيين. فيُصوَّر قرار إغلاق المعابر ووقف المساعدات كخطوة “اضطرارية”، بينما يُمحى السياق الكامل: الاحتلال المستمر، الجرائم في غزة والضفة، الاغتيالات اليومية، والاستيطان المتوحش.
هذه السردية، التي تبثها شبكة أفيخاي تستهدف بالأساس العقل العربي، حيث تراهن على تعبئة مشاعر الإحباط لدى بعض الشرائح من طول أمد الصراع، وتحويلها إلى غضب موجَّه نحو المقاومة بدلًا من الاحتلال. إنها عملية تبييض متكاملة لجرائم إسرائيل، عبر تجزئة المشهد وقطع العلاقة بين الفعل والسبب الحقيقي.
ويظهر ذلك أن الرهان الأكبر للاحتلال ليس فقط في الميدان العسكري، بل في الميدان المعنوي والإعلامي. فحين يتبنى بعض الناشطين العرب سرديته، يُصبح الاحتلال في موقع مريح: الفلسطيني يواجه القمع والعقاب، بينما شريحة من محيطه العربي تردد رواية الجلاد وتحمّله مسؤولية ما يجري له.
وتهدف هذه الاستراتيجية إلى تفكيك التضامن الشعبي العربي مع القضية الفلسطينية، عبر زرع القناعة بأن المقاومة “تجلب الكوارث”، في حين أن الاستسلام هو “الخيار العقلاني”. وهو ما يعكس نجاحًا جزئيًا للاحتلال في حرب الرواية، إذا لم يُواجَه بخطاب نقدي يُعيد الأمور إلى نصابها.
الحقيقة الغائبة في خطاب شبكة أفيخاي
ما يغيب تمامًا عن خطاب شبكة أفيخاي وأتباعها هو أن الفلسطينيين، سواء في غزة أو الضفة، يعانون منذ عقود قبل أي عملية مقاومة. الحصار لم يبدأ مع عملية جسر اللنبي، والاستيطان لم يتوقف يومًا، والاعتقالات والاغتيالات لم ترتبط بشرط وجود مقاومة مسلحة.
فالمساعدات التي أوقفتها سلطات الاحتلال ليست منّة، بل هي حقوق إنسانية أساسية يضمنها القانون الدولي، وواجب على قوة الاحتلال تأمينها لا استخدامها كورقة مساومة.
وبالتالي، فإن تصوير العملية كمبرر وحيد للمعاناة هو تضليل متعمد يخفي الجذر الحقيقي للأزمة: استمرار الاحتلال ونظام الفصل العنصري.
وبالمجمل فإن الهجوم الإعلامي الذي تقوده شبكة أفيخاي على المقاومة الفلسطينية عقب عملية معبر الكرامة ليس إلا حلقة جديدة في مسلسل إعادة إنتاج صورة الاحتلال كضحية والمقاومة كجلاد.
لكن الوقائع الميدانية والقانون الدولي والذاكرة التاريخية كلها تؤكد العكس: الاحتلال هو أصل المأساة، والمقاومة فعل مشروع وضروري لمواجهته.
كما أن تصوير الدفاع عن الأرض والكرامة كـ”كارثة يصنعها الفلسطينيون لأنفسهم” ليس سوى محاولة لتسويق الاستسلام كخيار وحيد. وفي هذا يكمن جوهر الدعاية الإسرائيلية: أن يقتنع الفلسطيني والعربي أن لا جدوى من المقاومة، وأن الاحتلال قدر لا يُقاوم. والرد الوحيد على ذلك هو التشبث بالرواية الحقيقية: الاحتلال هو الكارثة، والمقاومة هي الحق المشروع في مواجهته.