احتفالات السلطة ودماء المقاومة: مفارقة الاعترافات الغربية بدولة فلسطين

تدخل القضية الفلسطينية مرحلة جديدة مع إعلان بريطانيا وأستراليا وكندا والبرتغال اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، على أن تتبعها فرنسا وبلجيكا ودول أخرى خلال قمة الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وتأتي هذه الاعترافات كخطوة تبدو على السطح حدثاً تاريخياً، لكنها في العمق تحمل الكثير من التناقضات بين جوهرها الحقيقي، وبين طريقة استثمارها سياسياً من قبل السلطة الفلسطينية والدول الغربية على حد سواء.
فالسلطة سارعت إلى الاحتفال بهذا “الإنجاز”، وكأنها صاحبة الفضل فيه، فيما يعرف الفلسطينيون جيداً أن ما فرض هذه الموجة من الاعترافات لم يكن بيانات رام الله ولا لقاءات بروكسل، بل الدماء التي سالت في غزة، والتضحيات التي قدّمها الشعب بمقاومته المستمرة رغم حرب إبادة طاحنة قاربت عامها الثاني.
ويظهر ذلك أن السلطة تحتفل باعترافات لم تصنعها، بل جاءت نتيجة مباشرة لصمود شعب قاوم وقدم دماءه.
السلطة الفلسطينية ويكيبيديا
منذ اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، وقبلها بسنوات، لم تتوقف السلطة عن مهاجمة المقاومة ووسمها بـ”العبثية”.
ولم تفوت السلطة فرصة في المحافل العربية والدولية للتبرؤ من الكفاح المسلح أو لوصفه بالمغامرة التي تجرّ الويلات على الفلسطينيين.
وكان هذا الخطاب وفّر غطاءً لتصعيد الاحتلال، ورسخ الانقسام الداخلي الذي طالما استفادت منه دولة الاحتلال.
واليوم، حين بدأت الدول الغربية بالاعتراف المتأخر بدولة فلسطين، تسعى السلطة إلى نسب الفضل لنفسها، متجاهلة أن هذه الاعترافات لم تكن سوى نتيجة مباشرة لصمود الشعب تحت القصف، ولقوة المقاومة التي كشفت زيف الرواية الإسرائيلية، وأحرجت الحكومات الغربية أمام شعوبها.
ويشكل هذا التناقض مفارقة صارخة: من قاوم وقدم الدم يدفع ثمن التضحيات، ومن تبرأ من المقاومة يقطف ثمارها السياسية.
الاعترافات الدولية بدولة فلسطين
لا يمكن على المستوى الدولي إغفال حقيقة أن هذه الاعترافات، رغم رمزيتها، جاءت محمولة على ازدواجية المعايير.
فالدول الغربية النافذة التي أعلنت اعترافها اليوم هي نفسها التي دعمت دولة الاحتلال بالسلاح والمال والدبلوماسية طيلة الحرب، وساهمت عملياً في استمرار الإبادة بحق أكثر من مليوني فلسطيني في غزة.
ويأتي الاعتراف بدولة فلسطين في هذا التوقيت محاولة مكشوفة لحفظ ماء الوجه أمام الرأي العام الغاضب في شوارع لندن وباريس وتورونتو وكانبرا.
فالمظاهرات المليونية والضغط الشعبي والإعلامي المتواصل أجبر هذه الحكومات على تقديم “بادرة سياسية”، في وقت واصلت فيه شراكتها العسكرية والاستخباراتية مع إسرائيل بلا انقطاع.
وعليه فإن هذه الاعترافات ليست تحولاً جذرياً في الموقف الغربي، بل محاولة لاحتواء غضب جماهيري متصاعد، وتجميل صورة حكومات متورطة حتى النخاع في تمكين الاحتلال.
وبحسب مراقبين فإن الحدث الأهم ليس الاعترافات بحد ذاتها، بل التحول في المزاج الدولي الذي فرضها.
فخلال عامين من الحرب على غزة، تكشفت بشاعة الاحتلال أمام العالم: آلاف الشهداء، معظمهم من النساء والأطفال، انهيار كامل للبنى التحتية، مجاعة متعمدة، ونزوح جماعي.
وهذه الحقائق لم تعد قابلة للطمس حتى في الإعلام الغربي المهيمن، ما أجبر الحكومات على اتخاذ خطوات شكلية لتجنب فقدان شرعيتها الأخلاقية أمام شعوبها.
الحراك الشعبي العالمي، من الجامعات الأميركية إلى شوارع أوروبا وأميركا اللاتينية، هو الذي أعاد القضية الفلسطينية إلى قلب الأجندة الدولية. هذا الحراك لم ينطلق من خطابات السلطة، بل من صور المجازر في غزة وصمود المقاومة في الميدان.
السلطة الفلسطينية بين العجز والارتهان
في المقابل، تكشف طريقة تعامل السلطة الفلسطينية مع الاعترافات عن مأزقها البنيوي.
فهي تعجز عن تقديم أي بدائل سياسية واقتصادية للشعب، وتكتفي بالرهان على وعود غربية أثبتت التجارب أنها فارغة.
والأسوأ أن السلطة توظف الاعترافات لتلميع صورتها داخلياً، بينما يستمر التنسيق الأمني مع الاحتلال، ويستمر خطابها العدائي تجاه كل أشكال المقاومة.
إنها سلطة تراهن على العالم الخارجي وتتنكر لشعبها، في حين يثبت الواقع أن الإنجازات السياسية ــ مهما كانت رمزية ــ لا تأتي إلا حين يكون للشعب كلمة ودم على الأرض.
في الوقت ذاته تمثل الاعترافات المتتالية بدولة فلسطين مؤشراً على تراجع نسبي في الهامش الدبلوماسي لإسرائيل، لكنها تبقى بلا قيمة حقيقية ما لم تترافق مع خطوات ملموسة: وقف الاستيطان، إنهاء الحصار، محاسبة مجرمي الحرب، وضمان حق الفلسطينيين في تقرير المصير.
وحتى ذلك الحين، ستظل هذه الاعترافات مجرد أوراق سياسية تُلوّح بها الحكومات الغربية لامتصاص غضب شعوبها، بينما يبقى الفلسطينيون وحدهم في مواجهة آلة الاحتلال.